صحيح أن الحياة المشروطة بالإكراه، والتهديد، والإذعان والعبودية، تصبح فيها الولاءات الشخصية، وروابط الاصطناع الشخصي، محض نماذج بشر بمصائرهم المهزومة بأيدى أصحابها، نتيجة فقدانهم وعيهم الذاتي، هم رهان دعم السلطة الجبرية والحفاظ على بقائها، لكن الصحيح كذلك أن الاستقلالية الفردية المتصالحة مع نفسها من جهة ومع الخارج بطريقة الاعتراف المتبادل، تعد الوضع الفكرى المدنى المتقدم، الذى يسمح بإنتاج أفراد عاديين ومتمايزين. والصحيح أيضًا أن إنجازات الإبداعات الفنية تعد من أدوات الضبط الاجتماعي، عندما تؤكد استقلالية الفرد وحريته، لكيلا تتماثل ذات الفرد مع قاهرها؛ بل تكتسب وجودها من فرديتها وتجربتها التاريخية، وليس من انعزالها، إذ الفرد هو أحد، لكنه ليس الأوحد؛ لذا فى عام 2010 عرض مسلسل سبارتاكوس: الدم والرمل فى الولاياتالمتحدة، الذى يتناول قصة حياة بسبارتاكوسا العبد الرومانى الذى امتلك جسارة المواجهة لمجتمع روما، بطبقيته المجحفة وعبوديته المترسخة، متمردًا على سيده بقتله، وخرج لمواجهة الرومان، وعيًا بأن المواجهة هى جسر العبور الوحيد الذى يقود إلى التحرر من العبودية، والتخلص من التقاتل القسرى الذى فرضته عليهم ثقافة العنف، فى إطار فرجة رهانها استنزاف حياتهم إمتاعًا لأسيادهم المستلذين بمشاهدة ذلك التقاتل الوحشي، وفى ظل امتداد سلطتهم لفرض إرادتهم لتدجين البشر وامتلاكهم. إن تصدر سبارتاكوس وطليعته للمواجهة، تحقيقًا لذلك التحول المصيرى يعد لحظة نهضوية عازمة على إزالة مبادئ نظام روما بمنطقه ومسلماته، والقطيعة معه لتحل محله مبادئ نظام جديد ثوري، يكفل الحرية والعدالة للمستذلين من البشر، انطلاقًا من إدراكهم معنى الحرية ليس لأنفسهم فقط؛ بل وعيًا بأنها غاية عامة، تستأهل أن تبذل من أجلها التضحيات تخطيًا للمعهود المذل لجوهر الإنسان وكرامته، وذلك دون استهداف الحصول على تمييز، فانضم إلى الطليعة الثورية، باندفاع ذاتي، نحو مائة ألف من المقاتلين العبيد المستذلين، فكونوا جيشًا بقيادة سبارتاكوس، ألحق بالجيش الرومانى هزائم متعددة.لكن مدونات التاريخ تروى أن المتحررين من عبوديتهم فور انتصارهم على جحافل الرومان، نظموا حفلات للفرجة على معارك للتقاتل حتى الموت بين مئات من الرومانيين الأسري، تكرارًا لتلك المعارك التى كانوا هم أنفسهم ضحاياها من قبل، فى ظل مبدأ العبودية الذى ثاروا عليه، لقد جلس المتحررون من عبوديتهم فى المدرجات التى كانت الطغمة الحاكمة تحتلها، أما الجنود الرومانيون المتقاتلون فقد أصبحوا عبيدًا للسادة الجدد الذين راحوا يتفرجون عليهم فى ظل صخب هذيانهم وفرحهم. ترى هل تحول فيض قوة انتصارهم إلى امتياز افتخاري، فشكل حجبًا لمبدأ النظام الجديد الذى يجب أن يسود روما، بإلغاء العبودية، وتحقيق العدالة الاجتماعية تفعيلاً للحقوق المتكافئة؟ لقد كان على النخبة الانتباه لدلالة هذا السلوك ومرجعيته وتأثيره، وكيفية مواجهة ما قد يأتى تاليًا عليه فى ظل أى ظرف، حماية لمبادئ الثورة لما يلحقه بها من ضرر فادح، لاستبقائه مبدأ العبودية، وإعادة إنتاج النظام الذى ثاروا عليه. قرر سبارتاكوس الزحف لتطويق روما، فإذ بردة ارتجاعية قد تبلورت فى انسحاب الجيش- رغم انتصاراته- مقررًا التقهقر عودة إلى صقلية، طارحًا خلفه مهام إرساء المبادئ التى ثار من أجلها، وكأن الثورة قد اختزلت فى حصول كل فرد على حريته، والانفلات بها، واختفت بذلك حقيقة الحقوق المتكافئة للجميع، لكن باءت بالفشل كل محاولاتهم للهرب، إذ طاردهم الجيش الرومانى وهزمهم، وقتل سبارتاكوس، وصلب منهم أكثر من ستة آلاف فرد. لقد كشفت النهاية عن غياب النخبة وعجزها عن استدراك المخفي، بسبر أغوار الأحداث، ومتابعة تحصين الروح الثورية الجمعية، ودوام استنفارها عبر وعى تنويرى بالتغيير وأهدافه وآليات حدوثه ومراحله، بما يحميها من أى اختراق داخلى أو خارجى يحاول تفتيتها. لم تدرك النخبة أن إجهاض الثورة يعنى حرمانها من أن تنتج وجودها. ولأن النخبة تجسد مفهوم الضمير العام لمجتمعها وتطلعاته، بوصفها مرجعية ماثلة عبر جسور الممارسة الدائمة فى تواصلها التنويرى مع مجتمعها، فى كل شئون تفاعلات المجال العام واهتماماته، ولأن غيابها أو سلبيتها، يشكل تهديدًا لوحدة مجتمعها؛ لذا تورد مدونات التاريخ نماذج من نتائج وقائع غياب النخبة عن تواصلها مع مجتمعها، ففى النمسا عام 1895 أسفرت نتائج انتخابات عمدة المدينة عن اختيار بكارل لوجير»، وعندما اكتشفت النخبة أن الاختيار كان لشخص طائفي، عنصري، متطرف، أدركت نتيجة غياب تواصلها التنويرى مع مجتمعها، وتجلى موقفها الاستدراكى التاريخى والاستثنائي، فى محاولة حماية مجتمعها من الخسائر الكارثية التى تعايشه؛ إذ التقى المثقفون المستنيرون، وعلى رأسهم عالم النفس سيجموند فرويد، مع الكنيسة الكاثوليكية على ضرورة تفادى تعيينه، وشاركهم الرأى رأس الدولة الإمبراطور الذى لم يعتمد قرار تعيينه. ويتجلى نموذج سلبية النخبة عن الاضطلاع بدورها التنويرى فى ألمانيا عقب عام 1933، حين أسفرت الانتخابات عن اختيارهتلر لقيادتها، الذى لاحق المثقفين، وحرق كتبهم، لكن الصحيح أن سلبية النخبة تجاه تجاوزاته أدت إلى الزج بألمانيا فى كارثة، نتيجة موت الحرية، وتسلط العنف، وعبودية العقل، وقد دفع الشعب الألمانى ثمن سلبية نخبته عشرة ملايين قتيل. صحيح أن دور النخبة مقرون بمواصلتها مواجهة التحديات كافة تحقيقًا لتنوير المجتمع، حتى يعيش الانبعاث الكيانى النهضوي، لكن الصحيح أيضًا أن ثمة موانع مستجدة لدور النخبة، لا تعزز تنوير المجتمع؛ بل تتصدى لكل ممكن منتظر بممارسة الخداع وتعمية الواقع، عندئذ يتحقق الموقف السلبى تجاه الواقع، فيغيب الأمل وينقطع الرجاء، ويأتى ذلك على يد مثقفين مغالطين هم خبراء الكذب بدعم وسائل الإعلام، وفقًا لدراسة باسكال يونسيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية فى باريس، التى ظهرت فى كتاب عام 2011، إذ يؤكد المؤلف أن المثقف قد تحول من شخص يفكر ويصنع المعنى إلى مثقف مقاولات، يستخدم كمادة لتجميل القبيح وتزوير الحقائق، ويتسم الكتاب بجهد واع راح يفكك نظامًا، ويورد حقائق لهؤلاء الكذابين بأمثلة حية لتصريحاتهم، كاشفًا خفايا مغالطة هؤلاء المثقفين، الذين يمارسون نفاقًا يجانس بين السيطرة والمعرفة، ويستهدفون الاستقطاب المجتمعى الانقسامى المتضاد، متجاهلين أن العقل حارس المعرفة، وهو الذى يتصدى للمصطنع، والمختلق، والمكذوب، وأن المعرفة تفقد هويتها كحقيقة عندما تخاصم الصدق. لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى