إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب خروج بلاده من «معاهدة تصفية الصواريخ المجنحة» الموقعة مع موسكو منذ ثلاثين عاما، وما أعقبه من مباحثات جون بولتون مستشاره للأمن القومى فى موسكو، يحدد الكثير من ملامح العلاقات الدولية خلال الفترة القريبة المقبلة، بما فى ذلك مدى احتمالات اندلاع «الحرب العالمية الثالثة». يذكر الكثيرون ما قاله الرئيس بوتين حول انه يظل يتمسك بما سبق وحددته سلوكيات شوارع لينينجراد إبان سنوات الصبا والفتوة، وفى مقدمتها «إذا كان العراك محتوما ، فلتكن أنت البادئ». ولعل المتابع لسياسات الرئيس الروسى يتذكر أيضا أنه طالما أحسن الاستفادة من كل الصعاب والعراقيل التى واجهت بلاده، على الصعيدين الداخلي، إبان مواجهته للحركات الانفصالية والتنظيمات الإرهابية فى شمال القوقاز، أو الخارجى مثلما فعل لدى مواجهة إعلان الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش الابن حول خروج بلاده من معاهدة الحد من الأنظمة الصاروخية فى مطلع القرن الجارى، وما أقرته الولاياتالمتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبى من عقوبات ضد روسيا منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية. ومن هذا المنظور نعيد إلى الاذهان ما قاله بوتين فى ختام منتدى فالداى فى سوتشى حول احتمالات اندلاع الحرب العالمية الثالثة والمواجهة العسكرية مع الولاياتالمتحدة. ونذكر أنه قال «إن بلاده لا تخشى أحدا. إن بلادا بمثل هذه المساحات الشاسعة وبمثل ما تملك من منظومات دفاعية وقدرات بشرية على استعداد للذود عن استقلالها وسيادتها .وفيما استطرد فى تفسيرات فلسفية لمعانى «الخوف» من منظور ما تراكم لديه من دروس وخبرات منذ سنوات عمله فى «كى جى بي» الذى يعد من اقوى أجهزة المخابرات فى العالم على مدى عقود طويلة، خلص بوتين الى تأكيد استعداد بلاده لمواجهة أى احتمالات بما فيها اندلاع الحرب العالمية الثالثة، وتبعات مواجهة البدء باستخدام الأسلحة النووية. ولعل ما قاله بوتين خلال الأيام القليلة الماضية ، يعيدنا بدوره إلى ما سبق وقاله فى خطابه بمؤتمر الأمن الأوروبى فى ميونيخ 2007 حول رفض روسيا لعالم القطب الواحد وانفراد واشنطن بالقرار الدولى، وإلى ما عاد إلى التذكير به فى مطلع العام الجارى فى «خطابه إلى الأمة»، حين كشف عن أحدث الأسلحة التى تنفرد بها روسيا اليوم، وقال إن لا احد فى العالم يملك مثلها، مؤكدا أن بلاده عكفت على تصميمها وصناعتها ردا على قرار بوش الخروج من معاهدة الحد من الأنظمة الصاروخية. كما أكد بوتين فى الخطاب نفسه أن بلاده قطعت شوطا طويلا على طريق تحقيق الاكتفاء الذاتى والعثور على البدائل ردا على الكثير من العقوبات الاقتصادية الغربية. وها هو يعود مرة أخرى للبحث عن الرد المناسب على إعلان نظيره الأمريكى دونالد ترامب الخروج من معاهدة تدمير «الصواريخ المجنحة» المتوسطة والقصيرة المدى التى وقعها الرئيس الروسى الأسبق ميخائيل جورباتشوف مع الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان فى واشنطن فى 1987، وأقدم بسببها كبير مصممى الصواريخ السوفيتية من طراز «اس اس 20» على الانتحار احتجاجا على ما أعتبره الكثيرون خيانة للوطن. وفى محاولة للبحث عن البدائل والحلول وصل الى موسكو، جون بولتون مستشار الرئيس الأمريكى للأمن القومي، حيث التقى عددًا من المسئولين البارزين الروس إلا أن اللقاء الأهم كان مع الرئيس فلاديمير بوتين الذى استهل لقاءه مع بولتون بإعرابه عن دهشته مما اتخذته الولاياتالمتحدة من إجراءات «غير ودية»، ومن مواصلتها لعدائها لروسيا على النحو الذى يبدو ان لا نهاية له، فى نفس الوقت الذى لا تبادلها فيه روسيا مثل هذا السلوك. وتوقف بوتين ليطلب توجيه «سؤال» يريد أن يسمع إجابته من ضيفه الأمريكي. - يبدو النسر المرسوم فى شعار بلادكم وهو يحمل فى أحد مخلبيه 13 سهما ( نسبة الى عدد الولايات التى اعلنت عن قيام الولاياتالمتحدة فى 4 يوليو عام 1776 )، بينما يحمل فى المخلب الاخر 13 غصن زيتون. ولم يكن بوتين قد فرغ من سؤاله حول أغصان الزيتون، حتى بادره بولتون بقوله ضاحكا : - إننى جئت إليكم بدون غصن زيتون!. ولم يَحُلْ مثل هذا التعليق من جانب من يعتبرونه فى داخل الولاياتالمتحدة وخارجها أحد أبرز المتشددين وأكثرهم عداءً لروسيا، دون أن يعود بوتين الى لهجته التى اتسمت بطابع ينم عن ترحاب وود على النقيض من «مضمون اللحظة»، ليطرح اقتراحه حول اللقاء مع نظيره الأمريكى على هامش احتفالات باريس بالذكرى المئوية الأولى لانتهاء الحرب العالمية الأولى فى 11 نوفمبر المقبل ، قبل ان يستدرك قائلا : - هذا فى حال أبدى الجانب الأمريكى اهتماما بهذه الاتصالات. وهو ما سارع بولتون بالرد عليه بقوله «ان الرئيس ترامب سيكون سعيدا بمثل هذا اللقاء» . وأضاف بولتون «أنه على الرغم من الخلافات الموجودة بيننا حسب المصالح القومية لكل من بلدينا، فمن المفيد جدا أن نلتقى ونعثر على نقاط الالتقاء وما قد يكون مفيدا لنا». الغموض الذى يظل يكتنف الكثير مما جرى تناوله وراء الأبواب الموصدة سواء فى الكرملين أو فى اجتماعات بولتون مع وزير الخارجية الروسية، أو وزير الدفاع ، لم يكن ليحول دون تداول ما تطرحه موسكو من تحفظات حول إعلان ترامب بشأن خروج بلاده من المعاهدة التى وقعتها مع موسكو، بما فى ذلك العودة إلى التذكير بما كان يسمى بأزمة الكاريبى التى استطاع الرئيس الأمريكى الأسبق جون كينيدى مع الزعيم السوفييتى نيكيتا خروشوف، تجاوزها فى عام 1962. ويربط عدد من المعلقين المعروفين بمواقفهم القريبة من الكرملين الكثير من جوانب تلك الأزمة وموافقة موسكو على سحب صواريخها من كوبا، مقابل الإعلان عن ضمانات الأمن لنظام فيديل كاسترو فى كوبا، وسحب الصواريخ المتوسطة المدى من تركيا والتى كانت تهدد موسكو وغرب الاتحاد السوفييتي، دون الإعلان عن ذلك، بما يمكن التوصل إليه للخروج من المأزق الراهن. ومن هذا المنظور قالت المصادر الروسية الرسمية إن موسكو يمكن أن تُقْدِم على تدمير أى صواريخ يمكن نشرها على مقربة من حدود روسيا فى حال خروج الولاياتالمتحدة من المعاهدة الموقعة من موسكو. وثمة من يضيف إلى ذلك إن الولاياتالمتحدة بما أعلنته من حرب تجارية ضد الصين يمكن أن تتزايد حدتها ووتيرتها، قد تدفع الصين إلى المزيد من التقارب مع روسيا، وبما يهدد عمليا الاستقرار الإستراتيجى الراهن، على ضوء عدم مشاركة الصين فى المعاهدة الموقعة بين موسكووواشنطن. ولذا كان من الطبيعى أن يعلن الكرملين رسميا عن الأخطار التى تهدد المنطقة والعالم من جراء قرار ترامب حول الخروج من المعاهدة المذكورة، فى نفس الوقت الذى بادر فيه الكثير من قادة كبريات البلدان الأوروبية أعضاء الناتو وفى مقدمتها فرنسا وبريطانيا وألمانيا بوصفها «الهدف المحتمل الأول»، بإطلاق تحذيراتها من مغبة التصعيد، ومناشدتهم الطرفين الأمريكى والروسى العمل من أجل العثور على الحلول المناسبة بعيدا عن التهديدات المباشرة من الجانبين. وكان الرئيس بوتين قالها صراحة حول إن الرد على الخروج من المعاهدة سيكون «فوريا وبلا إبطاء»، بينما قالت مصادر عسكرية روسية إن الرد الروسى لن يرتبط بالكم بقدر ما سوف يستند إلى «النوع»، فى إشارة إلى ما تملكه روسيا اليوم من أسلحة سبق وأماط بوتين اللثام عن بعضها فى خطابه إلى الأمة فى مارس الماضي، وإن ظل الكثيرون فى الداخل والخارج يعلقون الكثير من آمالهم على احتمالات أن يعثر الرئيسان بوتين وترامب على «الحلول الوسط» أو «النهاية السعيدة» فى لقائهما المرتقب فى باريس فى 11 نوفمبر المقبل على هامش احتفالات الذكرى المئوية الأولى للحرب العالمية الأولي، أى بعد أسبوع واحد من انتهاء الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي، والتى قد تحدد نتائجها الكثير من ملامح القمة المرتقبة. وحتى ذلك الحين تحذر موسكو من الاستمرار فى التفريط فيما تحقق من مكتسبات على صعيد الرقابة على التسلح ، على خلفية خروج بوش الابن من معاهدة الحد من الأنظمة المضادة للصواريخ ، وتهديد ترامب بالخروج من معاهدة تدمير الصواريخ المجنحة، فى ظل الأخطار التى تهدد استمرارية معاهدة سولت -3. وبهذا الصدد قال سيرجى ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسية والمسئول عن ملف العلاقات مع الولاياتالمتحدة إن موسكو تعرب عن مخاوفها من احتمالات أن يفقد العالم الرقابة على التسلح، مثلما فقد البعض الرقابة على مفردات خطابه، فى إشارة لا تخلو من مغزى إلى افتقاد الرئيس الأمريكى قدرة التحكم فى تصريحاته البعيدة عن الحكمة واللياقة.