نقاشات صاخبة... وأجواء توتر غير مسبوقة يعيشها الشعب الأيرلندي بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.... في الإعلام والمطاعم والمقاهي والباصات حتي سائقي تاكسيات الأجرة... لا حديث بين الأيرلنديين سوي عن تداعيات الخروج البريطاني علي بلادهم سياسيا واقتصاديا، وكلما اقترب الموعد المحدد في 29 مارس2019 لخروج بريطانيا، والإعلان عن فشل المفاوضين في التوصل لاتفاق، تزداد المخاوف لدي الايرلنديين. وربما لا يتصور كثيرون أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يشكل مسألة «حياة أو موت» للأيرلنديين... ويؤثر علي حياتهم اليومية بصورة مذهلة لأسباب كثيرة سوف نتعرض لها... وبمجرد أن تتحدث مع أحد الايرلنديين كما فعلت في زيارة قصيرة للعاصمة دبلن، تنطلق منه، مباشرة العبارات التي أصبحت شهيرة في «الميديا» من صحف وفضائيات وسوشيال ميديا مثل «الخروج الخشن» أو ما تطلق عليه الصحف البريكست الخشن. واقتصاديا يشعر الأيرلنديون أن حياتهم سوف تتأثر بشكل كبير بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي نظرا للارتباطات الاقتصادية والتجارية التاريخية الكبيرة مع لندن، خاصة أن معظم صادرات وواردات ايرلندا من بريطانيا تأتي عبر الشاحنات من إيرلندا الشمالية التي مازالت تحت التاج البريطاني. وبالأرقام، بلغ اجمالي صادرات ايرلندا إلي العالم في عام 2017 نحو 160 مليار دولار، أغلبها من اللحوم والألبان والجبن وهو ما جعلها الدولة رقم 28 في قائمة أكبر الدول المصدرة 22 مليارا من هذا المبلغ صادرات إلي بريطانيا، في حين تبلغ واردات ايرلندا من العالم نحو 75 مليار دولار منها 34 مليار دولار من بريطانيا وحدها. وكلما ترددت أنباء عن بريطانيا والاتحاد الأوروبي فشلا في التوصل إلي اتفاق أو إبرام صفقة وتصاعدت حدة التوترات بين رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، وشركائها الأوروبيين حول شروط الخروج. ويعصف الغضب والتوتر بالدوائر السياسية والاقتصادية في إيرلندا، ويتذكرون علي الفور ما يطلقون عليه «مجاعة أيرلندا الكبري» التي وقعت ما بين أعوام 1845 و1852 وتسببت في وفاة عشرات الآلاف وهجرة مثلهم، وأدت لانخفاض عدد السكان وقتها بنحو 25% وألقي الأيرلنديون باللوم علي بريطانيا التي كانت تحتل الجزيرة، أو كما قال الكاتب السياسي الايرلندي آنذاك جون ميتشل إن «السبب في حدوث المجاعة سياسة إنجلترا الطماعة والقاسية» وتريد بريطانيا وفقا لما أعلنته تيريزا ماي ترك السوق الأوروبية الموحدة، والاتحاد الجمركي، وعدم الاعتراف بمرجعية محكمة العدل الأوروبية. وفي خطابها الأخير منذ أيام عندما قالت «ماي» إنها تريد قطع معظم الارتباطات الاقتصادية والسياسية والقانونية مع الاتحاد الأوروبي، شاهدت كثيرا من الفزع علي وجوه الأيرلنديين الذين كانوا يتابعون الخطاب علي التليفزيون في العاصمة دبلن، وشعر كثير منهم بالأحباط والمستقبل الغامض بعد هذا الخطاب الذي وصفته الصحافة الأيرلندية بأنه يمهد ل «الخروج الصعب» بدلا من الخروج الناعم والسلس هو ما يحمل في طياته مخاطر أكبر وتحديات أكثر لأيرلندا. وعلي المستوي السياسي علي سبيل المثال، فإن دبلن تري أنه لا يمكن أن يتم إبرام صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد دون تسوية قضية إيرلندا الشمالية أو تحديدا طبيعة الحدود ما بين شطري الجزيرة الأيرلندية الشمالي والجنوبي.. وتريد الحكومة الأيرلندية الحصول علي ضمانات قوية مكتوبة تؤكد أن إجراءات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن تؤدي إلي فرض قيود صارمة من جانب لندن علي الحدود بين جمهورية أيرلندا وأيرلندا الشمالية التابعة للتاج البريطاني.. ويقول المسئولون في دبلن إن أفضل السبل لتجنب فرض قيود شديدة علي الحدود قد تشمل فرض رقابة علي جوازات السفر وحركة المواطنين الأيرلنديين بين شطري الجزيرة هي ضرورة الحفاظ علي إجراءات تنظيمية موحدة في الشمال والجنوب علي السواء. ويري الأيرلنديون أنه يتعين علي لندن أو حتي أيرلندا الشمالية البقاء في السوق الموحدة أو الاتحاد الجمركي لتجنب حدوث مشكلات تتعلق بالحدود بين شطري الجزيرة الشمالي والجنوبي لإن الحدود بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا التي أصبحت عضوا في الاتحاد الأوروبي عام 1973 هي الحدود البرية الوحيدة لبريطانيا مع الاتحاد الأوروبي. ويري الأيرلنديون أن خروج بريطانيا من السوق الأوروبية الموحدة يطرح العديد من التحديات بشأن «منطقة السفر المشتركة» بين إيرلنداوبريطانيا، وقدرة العمال الإيرلنديين علي العمل بحرية في بريطانيا والعكس، وهو الوضع الذي تسعي حكومة دبلن حاليا إلي الحفاظ عليه بقدر الإمكان كما أن خروج بريطانيا من الاتحاد الجمركي سوف يقيد حركة السلع والبضائع عبر الحدود بين دبلن ولندن. ويواجه المصدرون الأيرلنديون إجراءات جمركية وبيروقراطية أكثر صرامة في حالة خروج بريطانيا وربما تفرض لندن رسوما جديدة علي المنتجات الأيرلندية التي تباع في المملكة المتحدة وبالتالي تفعل دبلن الشيء نفسه علي المنتجات البريطانية التي تباع في إيرلندا. من المؤكد، بل ومن الطبيعي أن يخشي الأيرلنديون علي بلدهم وعلي مستقبلهم من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فقد حققت البلاد خلال فترة قصيرة من الزمن نموا اقتصاديا رائعاً بكل المقاييس، ووصلت بمعدل النمو السنوي لأكثر من 9% وتغيرت أساليب حياة الايرلنديين البالغ عددهم نحو 5 ملايين نسمة إلي المزيد من الرفاهية بعد أن بلغ متوسط دخل الفرد نحو 57 ألف دولار سنويا، في حين وصل إجمالي الدخل القومي للبلاد في عام 2017 إلي أكثر من 271 مليار دولار.