يبدو لنا العالم أحيانا وكانه على شفا حرب أبادة من نوع جديد، حرب ركيزتها الأساسية الكراهية ولا أحد يعلم متى ولا كيف ستنتهى، إنها كارثة حقيقية تلوح فى الأفق بشكل متصاعد، وقد انهكنا البحث والباحثون على مدى العقود الأخيرة عن الأسباب: الدين ...الفقر...الجهل ام الأيديولوجيا، من الموجه الفعلى للعنف والتطرف، لكننا على الأرجح لم نبحث بشكل مكثف من قبل عن النوع الاجتماعى او «الجندر»- التميز حسب النوع- باعتباره محركا رئيسا نحو العنف فى عالمنا المعاصر. ............................. مع تصاعد حركات العنف والتطرف من قبل ما يسمى باليمينيين البيض او النازيين الجدد او داعش فى الولاياتالمتحدة وأوروبا، أصبحت هناك حاجة ملحة للنظر إلى التطرف والإرهاب ليس فقط باعتباره صناعة إسلامية جهادية، بل ربما البحث الأكثر تعمقا فى جذور كل هذا العنف المرتبط بشكل أساسى بنوع واحد فى المجتمع ألا وهو الذكر...فلقد استطيبنا على مدى عقود ان تتعلم الاناث الدفاع عن انفسهن ضد العنف الذكورى، وكأنه قدر مسلم به ولا قبل لنا بمواجهته، بعد أن تحول العنف الذكورى، إلى قضية تتعلق بسلامة وأمن المجتمعات، . هذه هى تحديدا الرؤية الجديدة التى يقدمها لنا عالم الاجتماع الأمريكى البارز، مايكل كيميل فى كتابه الجديد «الشفاء من الكراهية: كيف ينتقل الشباب من والى التطرف العنيف»، تخصص كيميل فى مجال يعد جديدا نسبيا فى علم الاجتماع الا وهو تعقيدات الذكورة، وقد الف من قبل كتابين يغطيان أرضية قد تكون تمهيدية لما يقدمه فى كتابه الأخير، وهما «الرجل الأبيض الغاضب»2013 والذى ركز على العنف ضد النساء ونوبات الغضب الذكورية التى تتحول الى عنف وما الذى يحفزها، ومن قبله كتاب عالم الرجال: عندما يتحول الصبيان الى ذكور والذى تناول بشكل مكثف تعقيدات التحولات النفسية لدى الذكور من عالم المراهقة الى عالم البلوغ... ان التقارير الإخبارية التى تأتينا بشكل شبه يومى عن اشكال العنف المختلفة المرتبطة باليمين المتطرف فى الولاياتالمتحدة او أوروبا، هى المادة الخصبة للأبحاث والدراسات المتعمقة التى قام بها كيميل لأكثر من عشرين عاما، لمعرفة من اين يأتى فعلا كل هذا الغضب، فقد اصبح ما يقوم به المتطرفون البيض لا يقل بشاعة عن الإرهاب الدولى فى بعض الدول الغربية، هؤلاء المتطرفون الذين يشكلون حفنة من الرجال الغاضبين، الذين تسيطر عليهم كراهية الأجانب او المهاجرين، الشعور بفقدان الامن الاجتماعى والاقتصادى، الحنين الى الماضى، ويبحثون من اجل إطفاء هذا الغضب المتصاعد عن الانتماء لجماعات يمكنها ان تتماشى مع هذا القدر من الكراهية، وهذا ما يوضحه المؤلف، وما يسعى الى تقديمه، طرح رؤى جديدة حول معالجة التطرف والعنف الذكورى. ما بين 11 و12 أغسطس من العام الماضى اندلعت اشتباكات فى مدينة شارلوتسيفيل بولاية فيرجينيا الامريكية بين متظاهرين من القوميين البيض ومجموعة مناوئة لهم مما تسبب فى حالة من اعمال العنف، قام خلالها طالب يدعى جيمس فيلدز فى المرحلة الثانوية بدهس حشد من المتظاهرين بسيارته، وتسبب فى قتل احدى المتظاهرات وتدعى هيثير هاير واصابة 19 اخرين، الشاب الذى لم يكن قد تجاوز عامه العشرين كان مهووسا بأفكار هتلر والنازية ويؤمن بتفوق العرق الأبيض وحتمية ان يهيمن على العالم. يوضح المؤلف ان جماعات الكراهية المعتمدة على فكرة التفوق الذكورى والعرقى قد ارتفعت من 784 فى عام 2014 الى 954 جماعة فى عام 2017 فى الولاياتالمتحدة فقط. فما الذى يجذب الشباب الى الجماعات المتطرفة؟ وما هى الروابط العاطفية المزورة التى تجعل من الصعب عليهم تركها؟ بعد اجراء مقابلات متعمقة مع أعضاء سابقين فى جماعات ما يسمى بالقوميين البيض، والنازيين الجدد فى الولاياتالمتحدة، ومجموعة حليقى الرؤوس والنازيين الجدد فى المانياوالسويد، يكشف كيميل فى كتابه الجديد كيف تتلاعب قيادات هذه الجماعات المتطرفة على عامل «الجندر» والقوالب النمطية الذكورية التقليدية لدى الأولاد من اجل تجنيد أعضائها الجدد، والاحتفاظ بهم ودفعهم الى ممارسة العنف ومنعهم من الخروج من هذه الحركات. يروى كيميل فى كتابه عن خبرته الشخصية بعد جلسات قام بها مع أكثر من متطرف سابق...من اليمينيين البيض الى الجهاديين الاسلاميين فى أمريكا وكندا والسويد وألمانيا وبريطانيا يروى قصة مراهق من ولاية مينيسوتا الامريكية، باع هاتفه المحمول وملابسه الرياضية الثمينة، من اجل شراء تذكرة طائرة متجه الى تركيا، ليس للسياحة بل للتوجه من إسطنبول الى سوريا للانضمام الى تنظيم داعش، انتهى الامر باعتقاله من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالية قبل ان يركب الطائرة وأجرى معه المؤلف عدة جلسات اثناء انتظار اصدار الحكم ضده، ذكر الفتى ان ما دفعه لهذه المغامرة لم يكن فعليا انجذابه لأيديولوجيا داعش فهو لا يفهم كثيرا عنها، بل كان الامر ببساطة انه فى صيف 2014 شعر ان عليه ان ينضم لقتال ما قيل له انه نظام يضطهد ابناءه، ولم يكن لديه المزيد من المعلومات. لكن كان الذهاب الى سوريا يتعلق بشكل أساسى برغبته فى ان يصبح رجلا وان يتصرف مثل الرجال، ويدافع عن المظلومين وعن القيم والحق والقيام بالواجب الذى يتحتم على الرجال فعله.... ان يعطى لحياته معنى ويقوم بفعل نبيل. كتاب الشفاء من الكراهية، يتحدث عن مثل هؤلاء الشباب الباحثين عن هويتهم فى الأماكن غير المناسبة، فهم الذين ينضمون الى داعش او النازيين الجدد او التنظيمات اليمينية المتطرفة وجميعهم من الرجال، وهنا يرى كيميل ان الامر ليس مصادفة على الاطلاق ان يكون الرابط فى شتى انحاء العالم بين العنف والتطرف والإرهاب هو الذكورة، حيث يبدو ان «الجندر» - التميز حسب النوع- فى حد ذاته هنا، الدافع الرئيس والالهام النفسى الذى يرسل الشباب الذكور نحو الاندماج بين هذه الجماعات المتطرفة. ويبدو ان الذكورة هى أيضا مادة الغراء التى تبقيهم داخل أحضان هذه الجماعات. هؤلاء الرجال يعتبرون النساء كائنات لا تستحق ان تتساوى معهم، مهمتهن المقدسة هى الانجاب، يذكر عضو سابق فى هذه الجمعات ان «النساء يلوثن الأشياء» مثلهن مثل السود والمهاجرين. لقد تواصل كيميل مع رجال وجدوا فى التطرف والعنف عالمهم المثالى. وقد قدم نماذج واضحة من عدة دول غربية، لرجال تمكنوا أخيرا من التخلى عن هذه الجماعات واتخاذ منحى جديد تماما فى حياتهم، من الكراهية المدمرة الى الرغبة فى احتواء الآخر والعطاء، مثل جاكى اركلوف المنتمى سابقا الى إحدى جماعات النازيين الجدد والذى كان يعرف ب«الرجل الأكثر كراهية» فى السويد، وفرانكى مايكنك الأمريكى احد المنتمين الى جماعات «حليقى الرؤوس» والذى مارس عدة جرائم عنف وانتهى الامر به الى ان تمت معالجته واصلاحه فى سجن ولاية فيلادلفيا وقد قدمت شخصيته فى احد ابرز أفلام هوليود» التاريخ الأمريكي»، وغيرهم. .ما يتميز به هذا الكتاب تحديدا، هو بحثه غير المعتاد والمتميز لشخصيات متطرفة «سابقا» خضعت لبرامج إعادة التأهيل، ولم يقدموا فقط رؤيتهم العميقة لعالم كانوا ينتمون اليه، بل أيضا شكلوا وسائل تأهيل جديدة تعتمد بالأساس على فهم وخبرة بأسرار هذه العوالم الغامضة، ويستعرض المؤلف من خلال مقابلاته المكثفة، احد المنتمين الى جماعات ما يسمى بالإرهاب الجهادى وهو البريطانى من أصول آسيوية، ماجد نواز، الذى انتهى به الامر بعد إصلاحه إلى ان اصبح احد ابرز الباحثين فى مركز الأبحاث البريطانى لمكافحة الإرهاب والنزاعات الدولية «كويليام»، وسياسى برلمانى بارز. واحد تلك الشخصيات الإيجابية أيضا، الالمانى إنجو هاسلباخ، والذى أسس ويدير حاليا برنامجا تأهيليا وإصلاحا ناجحا جدا، يسمى «الخروج من دويتشلاند». يروى هاسلباخ، كيف استقطبته وهو فى سنوات المراهقة المبكرة حركة النازيين الجدد، وكيف حرص وهو فى الرابعة عشرة على التودد اليهم فى المدرسة ومصاحبتهم خاصة الأكبر منه سنا. يكتب عالم النفس الأمريكى الشهير جيمس جيليجان فى كتابه المذهل «العنف»: ان عاطفة العار هى السبب الأساسى لكل اشكال العنف...ان الهدف من العنف لدى الذكور هو التقليل من الشعور بالضعف واستبداله بأكبر قدر من الكبرياء. يتناول المؤلف أيضا مفهوما عميقا لمعنى « استحقاق المظلوم» ويكتب:» فى امريكا نشأ العديد من شبابنا وهم يعتقدون ان العالم الذى خلفه لهم اباؤهم واجدادهم هو بأكمله من حقهم وانهم سيرثونه، لكنهم الان لم يعودوا يمتلكون هذا العالم بل اخذه منهم من هم دخلاء عليهم، انهم فى هذه الحالة يشعرون بالظلم الفادح وانهم ضحية مجتمع متعدد الثقافات و من حقهم استعادة ما كان لهم او ما يعتبرونه «خسارتهم العظمى وذلك من خلال اضعاف الاخرين او القضاء عليهم. يوضح الكاتب ان من ينتمون الى الجماعات المتطرفة لا يعتقدون انهم يسعون الى الاستيلاء على سلطة ليست من حقهم بل فى الواقع هم يعتقدون انهم يستعيدون ما هو ملكهم واخذ منهم بطرق غير شرعية. وبطبيعة الحال لا يدعى كيميل ان النوع فقط هو المسؤول عن التطرف او انه التفسير الوحيد، فكما يوضح:» هناك بالطبع الاقتصاد السياسى وشروط اجتماعية اخرى تشعر هؤلاء الرجال بان ارضهم البيضاء تسلب منهم.