عيناها زرقاوان كسماء تطير من وجه الصباح. أتلكأ لأمرَّ بجانبها. قابلتها أول مرة إثر انقطاع عن العمل لفترة زمنية قصيرة. كانت ضمن الفوج الذى تسلم راية تنظيف الجامعة. عاملة نظافة شديدة الجمال شديدة التأنق، على الرغم من أن العمل بالمكان المسئولة عنه لابد أن يصيبها ببعض الأدران فقد سُمِيَ (ببيت الراحة). ربما أحببت هذا الاسم، لأنها تستقبل كل من يدخل من بابه بابتسامة تكاد تنطق، وسماء تُدْخِلكَ إلى عمق النور بدعاء يخرج منهما صامتا ، ينتقل من قلبها لقلبك مباشرة. زد على ذلك أنها تصر على جعل بيت الراحة، أنيقا نظيفا كروحها بل تبالغ فتعطّره. فى يوم من الأيام دلفت إلى هناك لأتوضأ لأجدها فى استقبالى تنظر إليَّ بعينيها اللتين تكادان تنطقان. ربَتَتْ على كتفي، ثم انفجرت باكية قائلة: أشعر بك جيدا ثم احتضنتى بتردد خوفا على ملابسى النظيفة. لحظتها أحسست أن السماء هى التى تحتضننى ثم قالت: فقدت ابنى محمد فى حرب سيناء ولا أعرف مكانه ربما مشهده عند الجندى المجهول, قدمته لواجبه الوطنى وأنا راضية صابرة, فقد أتى بالنصر لمصر، وأردفت متنغمةً: يا هوايا عليك يا محمد يا هوايا عليك ومحمد لابس برمكى وأنا قلت له مبارك متى يؤون الأوان وأخش دوارك لحظتها تبادلنا الأدوار فانحنيت أقبل رأسها ويدها وأحتضنها؛ فما إن تُذْكر حربُ أكتوبر أو سيناء إلا وتنحنى روحى إجلالا وتعظيما لكل أم وأب وزوج وابن وابنة فقدوا بطلا من أجلنا. وعلى الرغم أننا لم نستلهم روح هذا النصر كما يقول بعض المفكرين لبناء دولة حديثة, بسبب الحروب القذرة الخفية التى تمارسها الدول المعادية بتركيع مصر اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتعليميا بل تفكيكا أسريا لكن مصر لم ولن تنهزم . وقد أسهمنا معهم فى هذا عندما وقفنا نصد الهجمات ونبتعد عن البناء. كلمة الأم المكلومة على ابنها الشهيد هذه الكلمة ذكرتنى بقصيدة ياهوايا عليك يا محمد لشاعر العربية الكبير أحمد عبد المعطى حجازي، الذى اشتهر بالكتابة الواقعية - كما قال رجاء النقاش - فلو قرأنا شعره جيدا سنجد أنه محمل باليومى والعادى ولكن فى جمال آسر طورته قصيدة النثر. تلك القصيدة التى كتبها لأخيه محمد الذى استشهد على أرض سيناء فى حرب 1967، فكانت أمه تبكى أخاه بهذه الأغنية الشجية فحولها الشاعر الفذ لقصيدة لو قُرِئتْ حق قراءةٍ، وتربى عليها أجيالُنا فى مناهجنا الدراسية، لتعلموا وعلموا كيف كانت بسالة الجندى المصرى الذى حولَ الأسى لفرح، ولحافظ كلٌ فى مكانه على نفس روح الأم التى قدمتْ ابنها الشهيد لمصر، كل هؤلاءالذين قدموا أبناءهم هم ملح الأرض الذى يجب أن نحفظه فى بحر البناء. وامتدادا لروح أكتوبر فاجأتنى أم شهيد مرفوعة الهامة قدمت ابنها الوحيد هو النقيب أشرف إبراهيم جاد منصور الذى رفض أن يسلم للإرهابيين نفسه وظل يقاتل حتى استشهد على أرض سيناء، تكرم فى مهرجان المنصورة عاصمة الفنون وكذلك شاب صغير قدم لاستلام تكريم والده عمرو فتحى صالح الذى استشهد أيضا فى الحرب الدائرة الآن. إنهم امتداد لروح أكتوبر التى لن تموت. لمزيد من مقالات شيرين العدوى