على مدى 50عاما هى عمر الجائزة الأدبية البريطانية العريقة التى اكتسبت شهرة عالمية؛ أثارت ال«مان بوكر» الكثير من الجدل حولها، تارة بشأن كواليس وآلية التحكيم وتارة بشأن الأعمال الفائزة ومدى جودتها، وأخيرا حول قواعد ومعاييرالمنافسة، إلا أنها على الرغم من كل ذلك؛ نجحت بلا شك فى تقديم آلاف الروايات الجيدة والكُتاب الموهوبين إلى القراء فتخطى تأثيرها من مجرد رفع مبيعات الروايات المتنافسة أو الفائزة بها إلى ارتفاع شهرة المؤلفين وإعادة تعريف الهوية الأدبية للبعض منهم وتقديمهم عددا أكبر من القراء وأكثر تنوعا. وطوال رحلة الجائزة التى امتدت لنصف قرن لم يتوقف الجدل حولها، وأخيرا فى مفاجأة من العيار الثقيل؛ كشف أرشيف جائزة «مان بوكر» الأدبية أن اختيار الفائز بالجائزة عام 1976 تم من خلال الاقتراع على رمى عملة معدنية، ويمثل ذلك الكشف صدمة لمتابعى الجائزة البريطانية العريقة ذات الصبغة العالمية خاصة أنه تزامن مع احتفال الجائزة بمرور 50 عاما على إطلاقها. وتم الكشف عن تلك المفاجأة فى تصريح للمدير الأسبق للجائزة مارتن جولف ضمن فيديو وثائقى أطلقته المكتبة البريطانية بمناسبة احتفال «مان بوكر» باليوبيل الذهبي، يتضمن الفيديو تاريخ الجائزة وسلسلة من المقابلات والحوارات الأرشيفية مع الشخصيات الرئيسية والبارزة فى تاريخها. وكان الفائز برمى العملة هو الكاتب دافيد ستورى بروايته «سافيلSaville»، وذلك بعد أن اختار اثنان من القضاة الثلاثة، والتر آلان وفرانسيس كينج روايات مختلفة، بالإضافة إلى انسحاب القاضية الثالثة مارى ويلسون من لجنة التحكيم بسبب جرعة الجنس الزائدة فى روايات ذلك العام. وكشف «جولف» كواليس اختيار الفائز قائلا : «كينج وآلان لم يتمكنا من الاتفاق على مرشح واحد.. وويلسون لم ترغب بالتصويت..وصلنا إلى حالة من الجمود التام فى النهاية..وقال أحد القاضيين (لم يتم الكشف عن اسمه): الخيار الوحيد أمامنا هو الاقتراع عبر رمى عملة معدنية..ومن ثم تم اختيار الفائز». الموقف قد واجهه الشاعر فيليب لاركين الذى ترأس لجنة التحكيم فى دورة عام 1977 فقد هدد أعضاء لجنة التحكيم بالقفز من النافذة إذا لم تفز رواية بول سكوت «Staying On» ونجح بذلك التهديد فى إقناع القضاة وفازت الرواية بالجائزة. ولم تتوقف الاكتشافات المثيرة خلف كواليس «مان بوكر» عند هذا الحد، بل تم الكشف أن عضوة لجنة تحكيم الجائزة، فى عام 1974، اليزابيث جين هاوارد قد قاتلت بشراسة لإدراج رواية كتبها زوجها كينجسلى أميس ضمن القائمة القصيرة. كما تم تسريب رسالة كتبتها ريبيكا ويست، وهى أول قاضية فى دورتها الأولى عام 1969، كما حكمت فى دورة 1970، حيث أوضحت ويست فى الرسالة الموجهة لأحد أصدقائها رأيها بصراحة فى أعمال عدد من المؤلفين الرائدين بينهم : ميلفين براج، كينجسلى أميس، جون لو كاري، ويندى أوين، واصفة إياهم ب «الحمقى والبلهاء»، وانتقدت الروايات التى حكمتها فى إطارالجائزة واصفة إياها بكونها «هراء مبتذلا، مخيبة للآمال وذات أسلوب سرد ونثر ينفر القارئ». لاشك أن تلك المفاجأة ستصعد من وتيرة الانتقاد للجائزة الأدبية البريطانية الأشهر، وتوجه المزيد من الطعنات لمصداقيتها وتاريخها، حتى وإن كانت تلك الوقائع قبل أن تحظى الجائزة بشهرتها العالمية فى مطلع الثمانينيات من القرن الماضى مع المعركة التنافسية التى خاضها الكاتبان ويليام جولدنج وأنطونى بيرجيس على دورة 1980 والتى حسمها ويليام جولدنج لصالحه. وعلى الرغم من تركها الحكم للقراء لاختيار الفائز بجائزة «مان بوكرالذهبية» التى طرحتها هذا العام احتفالا بيوبيلها الذهبي؛ لم يسلم إعلان فوز الكاتب مايكل أونداتجى وروايته «المريض الانجليزى» بالجائزة الذهبية من الجدل، فبعد أن تم تعيين لجنة من خمسة قضاة لاختيار قائمة ذهبية من خمسة كتب، تم طرح الكتب الخمسة للتصويت العلني، اختار القراء رواية «المريض الانجليزى» للكاتب مايكل أونداتجى فى يوليو الماضي، وسط جدل حول كون تحويل الرواية إلى فيلم سينمائى ناجح حصد العديد من جوائز الأوسكار وتأثر القراء به هو سبب تصويتهم للرواية وفوزها بالجائزة الذهبية خاصة أنها كانت الرواية الوحيدة التى تحولت لعمل درامى من بين الأعمال المتنافسة، ورأى بعض النقاد أن «المريض الانجليزى» لم تكن أفضلهم مما أثار تساؤلات حول مدى مصداقية ترك الحكم الأدبى للجمهور فى ظل غياب ضمانات بقراءة كل الكتب المتنافسة واختيار الأفضل من بينها كما يحدث عادة فى لجان التحكيم الأدبية. أمركة البوكر وبعيدا عن الجدل حول كواليس وآليات اختيار الفائزين كان هناك جدل آخر حول معايير وشروط المنافسة تسبب فى توجيه اتهامات لإدارة الجائزة بتغيير هويتها البريطانية العريقة. فحتى عام 2013، كانت «مان بوكر» مفتوحة فقط للمؤلفين من بريطانيا ودول الكومنولث وزيمبابوى وأيرلندا. وهذا ما جعلها منصة قيمة للارتقاء بمهنة الكُتاب البريطانيين أمثال :كازو إيشيجورو، وإيان مكسيوان، وكذلك الكُتاب من البلدان التى غالبا ما تكون ممثلة تمثيلا ضعيفا فى الأدب العالمى أمثال: أرونداتى روى (الهند)، ونادين جورديمر (جنوب أفريقيا)، وكيرى هولم (نيوزيلندا)، وبن أوكرى (نيجيريا). ومنذ إعلانها عام 2013 انفتاحها على كُتاب اللغة الانجليزية الذين ينشرون أعمالهم ببريطانيا أيا كان موطنهم، أثار هذا الإعلان حفيظة بعض الكُتاب البريطانيين الذين طالبوا بأن يتم حجب مشاركة الكُتاب الأمريكيين من المنافسة على الجائزة مستقبلا خاصة بعد فوز الروائى الأمريكى بول بيتى بروايته «خيانة» عام 2016، وقاد الروائى البريطانى المخضرم جوليان بارنز والفائز بالجائزة عام 2011 هجوما على الجائزة، معتبرا إتاحة «المان بوكر» لمشاركة المؤلفين الأمريكيين يضر بفرص الروائيين غير المعروفين من دول الكومنولث ويقلل من فرص اجتذاب أصوات جديدة تكتب بالانجليزية فى بريطانيا وايرلندا ودول الكومنولث وزيمبابوي، مشيرا إلى أن الكُتاب الأمريكيين لديهم ما يكفى من الجوائز الأدبية فى نفس الوقت الذى تغلق فيه الجوائز الأمريكية الباب بوجه ترشح أى كاتب لا يحمل الجنسية الأمريكية. وانضم لبارنز كُتاب آخرون مثل الاسترالى بيتر كاري، والبريطانى فيليب هينشر، ملوحين بتنظيم حملة موسعة لدعوة الكُتاب من بريطانيا وايرلندا ودول الكومنولث لمقاطعة الجائزة، ومحذرين مما وصفوه ببدء عصر هيمنة الرواية الأمريكية وانتهاء انتصارات الأدباء البريطانيين، الأمر الذى يفقد الجائزة البريطانية الأصل تميزها، ليشتعل الصراع الثقافى نتيجة لشعور الكُتاب البريطانيين بالتهديد من الهيمنة الثقافية والأدبية الأمريكية من جهة والخلاف بين الثقافتين الأمريكية ودول الكومنولث من جهة أخرى. وفى العام الماضى جاء فوز الأمريكى جورج سوندرز بجائزة «مان بوكر» عن روايته «لينكولن فى الباردو» ليصعد من هذا الجدل المحتدم ليكون «سوندرز» هو الكاتب الأمريكى الثانى الفائز بالجائزة للمرة الثانية على التوالي، فأصبح هناك قلق متصاعد من أن الجائزة البريطانية العريقة يجرى الاستيلاء عليها من قبل الكُتاب الأمريكيين. فوز سوندرز لم يثر الجدل فى بريطانيا وحدها بل أوصله إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لينضم نقاد أمريكيون إلى المطالب البريطانية بإبعاد الكٌتاب الأمريكيين عن «مان بوكر». وبرز لأول مرة تعبيرات مثل «أمركة البوكر» حيث قال الناقد البارز رون تشارلز: كأمريكيين، ينبغى أن نكون أكثر قلقا بشأن فقدان التنوع الثقافى، وإغلاق سبيل آخر لنا لتجربة شىء خارج حدودنا المتنامية باستمرار، وليس الانتقاد لأن المرشحين النهائيين لهذا العام كلهم أمريكيون، ولكن بالنسبة لأى قارئ جدى للأدب فى هذا البلد، فإن أمركة جائزة البوكر يمثل فرصة ضائعة للتعرف على الكتب العظيمة التى لم تنشرعلى نطاق واسع، وعلى البريطانيين الاعتراف بأنهم قد ارتكبوا خطأ عام 2014 عندما دعوا الأمريكيين لجائزتهم. وفى فبراير الماضى، كتبت مجموعة من 30 ناشرًا رسالة لمنظمى الجائزة، طالبوا فيها بإعادة النظر فى هذا القرار أو المخاطرة «بمستقبل أدبى متجانس». ويبدو أن هذا الجدل قد يكون مرشحا للتصاعد، ففى القائمة القصيرة للروايات المرشحة للجائزة بدورة العام الحالي، والتى تم إعلانها أخيرا أتى الروائيان الأمريكيان راشيل كوشنر بروايتها «فى غرفة المريخ»، وريتشارد باورز برواية «The Overstory» ضمن الأعمال المرشحة للفوز؛ لذا لا تزال هناك إمكانية للحصول على ثالث فائز أمريكى للعام الثالث على التوالي، وإذا ما حدث ذلك سيتسبب بإثارة عدة تساؤلات حول هوية الجائزة والعلاقة بين الهوية الأدبية وجنسية الكاتب وجودة الأدب، وهل سيقلل ذلك من إقبال الكُتاب من بريطانيا وايرلندا ودول الكومنولث على المشاركة فى المنافسة على الجائزة فى مقابل تشجيع المزيد من الكُتاب الأمريكيين على المشاركة، وكيف سيؤثر ذلك على مستقبل «مان بوكر» وهل سيكون فى صالح التنوع الأدبى أم سيتحول الأمر إلى صراع هيمنة بين ثقافتين ستكون الغلبة لأحدهما على الأخرى؟.