أحيانا تمر على الإنسان فترة من العمر، تكون كلها مغموسة بالحزن، عام، عامان، ربما أكثر، يفقد فيها بعض الأصدقاء، فيشعر بالوحدة، رغم وجود أصدقاء غيرهم، لكن المميزون هم من يرحلون أولا، فيشعر المرء بأن حديقته الصغيرة بقلبه، تفقد أجمل زهورها، وتنذر بالذبول معلنة قرب نهايته هو نفسه. ولا يقتصر فقدان الزهور على موت بعض الأصدقاء، والأحباء المقربين، لكن يمتد أيضا ليصيبك بالشجن عندما ترى بعينك هدم مكان قديم كنت تحبه، ولك فيه ذكريات جميلة، أو بيت كان يسكنه بعض جيرانك الطيبون، أو حتى مصنع كان فى مرمى مشوارك اليومى من البيت للعمل، وكنت تراقب عماله البسطاء كل صباح، وهم يقفون طابورا طويلا، يتضاحكون مع الحارس العجوز الذى يفتش جيوبهم، وطعام إفطارهم، ليتأكد من خلوه من السجائر، وبقية الممنوعات، قبل أن يسمح لهم بالدخول من الباب القصير، كأنه جهاز بشري لكشف المخالفين. نعم، لقد صارت أسباب الحزن لا تخطىء طريقها للبعض، بل تطورت، وأصبح لديها عقل تفكر به، ويهمس لها بأن بعض القلوب لا ينبغى الرحيل منها أبدا، إلا قليلا، لأنها دائما مشغولة بمن حولها، بأفراحهم، وأحزانهم، وحتى بتاريخهم الإنسانى معها. ولقد أصاب هذا المرض البعض حتى صار يريد أن يقيم متحفا عريقا فى قلبه، يحتفظ فيه بأثمن ما يملكه الإنسان فى رحلته على الأرض، وهى ذكرياته الجميلة، وأصداء أوقاته الطيبة من الآخرين. وهل يكون المرء شريرا إذا حزن لموت إنسان طيب، وتمتم فى سره كى لا يسمعه أحد، متمنيا موت أحد أشرار الحياة، بدلا من هذا الذى كان دعما لكل من حوله، ولو بكلمة طيبة، أو دعوة يكون على يقين من أن الله سيستجيب لها؟!. قد لا أجد فى فقد الأشخاص الطيبين حولنا ميزة رغم الحزن عليهم، سوى أنهم يهونون أمر الموت علينا، ويقللون رهبته التى فى قلوبنا منذ الطفولة، حين فزعت براءتنا لرؤية الكفن الأبيض، فترسب فى أذهاننا أن الموت لونه أبيض، رغم ملابس النساء السوداء فى الحداد. كلما تقدمنا فى العمر، تآلفنا مع أشياء وأمور كنا ننفر منها، وتباعدنا عن أخرى كنا نحبها، ولا نتصور أيامنا بدونها، لكنها الحياة، التى تعلمنا كل يوم درسا أعمق من سابقه، حتى أننا نقبل وبأيدينا على دفن بعض العلاقات التى كانت يوما ما مصدر سعادتنا، ندفنها كما ندفن موتانا، لأنها ماتت.. ماتت من كثرة تضحية طرف، وكثرة أعذار آخر، ماتت ولم يعد يصلح معها أى علاج، وجاء موعد مواراتها التراب، حتى لا ترى الشمس مرة أخرى، وحتى لا نراها نحن ثانية، فنعذب بها أنفسنا دون أن ندرى. لا أعرف كيف أنضجتنا الحياة على هذا النحو، وكنا بالأمس أطفالا نريد ونحب أشياء كثيرة، حتى تألفنا الآن مع فكرة الرحيل، وغدا أو بعد غد، يترك كل منا الحياة وهو باسطا يديه منها، كرسالة صامتة أخيرة يلقيها على من حوله. [email protected] لمزيد من مقالات وفاء نبيل