عجبت من وسائل الإعلام الفرنسية التى لم تذكر فى تغطيتها لحياة أسطورة الغناء الفرنسى شارل أزنافور الذى توفى يوم الإثنين الماضى، زياراته المتكررة لمصر، فقد أسهبت فى الحديث عن جولاته التى جاب فيها مختلف أرجاء العالم فقالت أنه زار الولاياتالمتحدة واليابان وغنى فى جميع الدول الأوروبية وفى القدس وتل أبيب، لكنها لم تشر من قريب أو بعيد إلى أنه زار مصر على الأقل ثلاث مرات كان أولها عام 1952 قبل أن يبزغ نجمه كأحد أشهر المطربين فى تاريخ فرنسا، حيث جاء مصاحبا لأم كلثوم فرنسا المطربة الراحلة إيديت بياف، وكان وقتها مجرد كاتب لأغانيها، وقد قدمت بياف للجمهور المصرى حفلا وحيدا على مسرح إيوارت بالجامعة الأمريكية. أما الزيارة الأخيرة التى قام بها أزنافور لمصر فكانت عام 2008، وقد دعوته وقتها إلى مزرعتى الصغيرة بدهشور فأمضى هو وعائلته يوما وسط نخيل تلك المنطقة الخلابة الواقعة عند سفح أهرامات دهشور الخالدة، بعيدا عن جو الفنادق والمسرح والحفلات الرسمية، وما بين الزيارة الأولى والأخيرة لم تنقطع علاقة أزنافور بالوطن العربى وبفنانيه فكان متيما بأم كلثوم التى قال لى أنه سمع أغنياتها لأول مرة أثناء زيارة قام بها للمغرب، وجمعته صداقة مع فريد الأطرش، وإلتقى فيروز وزوجها عاصى رحبانى فى لبنان، وقد روى لى عن زيارته لهما بمنزلها فى بكفيا. وحين حضر أزنافور إلى القاهرة عام 2008 كان فى ال84 من عمره وقد أصبح رمزا لفرنسا كما أصبحت أم كلثوم رمزا لمصر وأصبح لويس أرمسترونج (وقد زار مصر هو الآخر) رمزا لأمريكا، ووقتها قدم أزنافور حفلا بدار الأوبرا بالقاهرة خلب به الألباب، وقد أبدى سعادته فى اليوم التالى وهو يتجول تحت شمس مصر الشتوية وسط نخيل دهشور وأخذ يلتقط الصور بكاميرته الخاصة لهرم سنفرو الفريد والذى لا يشبه أىا من الأهرامات المصرية الأخرى، قائلا: فى سنى هذه الكاميرا هى ذاكرتى التى لا تنسى شيئا. وسألنى عن سنفرو فقلت له أنه والد خوفو وأنه أول من شيد هرما حقيقيا بعد مرحلة الأهرامات المدرجة فى الدولة القديمة، وقد اتخذ خوفو من هرم والده الأحمر نموذجا لهرمه الكبير بالجيزة، فقال أزنافور: أنا أعرف الإبن طبعا لكنى لا أعرف الأب، ثم أردف مداعبا: وهو ما يثبت لك صغر سنى!. وقد لا يعرف البعض أن أزنافور عانى كثيرا فى بداية حياته الفنية حين تعرض للسخرية بسبب قامته القصيرة وعدم وسامته وصوته الأجش ذو الرعشة الغريبة التى كانت تعتبر نشازا وسط الأصوات التى كانت سائدة فى أواسط القرن الماضى لتينو روسى وجان سابلون وغيرهما، وقد ولد أزنافور لأسرة أرمينية هاجرت من جورجيا بالاتحاد السوفيتى وكان اسمه شاه نور أزنافوريان، وقد روى لى أنه تألم كثيرا بسبب الهجوم الذى لاقاه فى بداية حياته فترك فرنسا إلى كندا حيث أمضى خمس سنوات المنفى الاختيارى صقل خلالها موهبته كما وسع مداركه الفكرية بالقراءة والاطلاع، وحين عاد بعد ذلك الى باريس كانت إديت بياف أول من تنبه لموهبته الفذة فى الموسيقى والشعر فغنت له بعض الأغنيات التى لفتت إليه الأنظار، ثم بدأ يغنى مؤلفاته بنفسه، إلى أن كتب أغنية لا ماما فى بداية الستينيات والتى وضعته فى مصاف كبار مطربى فرنسا فذاع صيته فى جميع انحاء العالم بسبب دفء صوته الذى لا يشبهه صوت وقدرته الفائقة على التعبير العاطفى، وبسبب موسيقاه العميقة التى استخدم فيها الكثير من تقنيات الموسيقى الكلاسيكية، وبسبب كلماته التى تعتبر أشعارا فى حد ذاتها. وقد أهدانى أزنافور عند حضوره كتابا من تأليفه هو مجموعة قصصية كتبها بنفسه وكان قد صدر فى فرنسا قبلها بأشهر قليلة، وقال لى يومها وهو يقدم لى الكتاب: ها أنا أكتب الأدب مثلك، فهل تحاول الغناء مثلى؟! ومثل أى فنان عظيم فإن أزنافور كان له جانبه الوطنى والذى دعاه لمناصرة قضية الشعب الأرمنى الذى يدين له بأصوله العرقية، وقد اعترف لى أنه لم يتعرف على أرمينيا إلا فى عام 1963 حين قام بزيارتها لأول مرة أثناء جولته فى ذلك العام بالاتحاد السوفيتى، لكنه لم يرتبط بها عاطفيا إلا بعد الزلزال المروع الذى وقع بها عام 1988 والذى راح ضحيته ما لا يقل عن 50 ألفا وتم تشريد نصف مليون آخرين، وقال لى: لقد أهاج الزلزال فى نفسى ذكرى المذبحة التاريخية التى تعرض لها الشعب الأرمنى على يد الأتراك فقمت بتأسيس مؤسسة خيرية تحمل اسم »أزنافور وأرمينيا« لمساعدة الشعب الأرمنى داخل الاتحاد السوفيتى، ثم كانت فرحتى الكبرى عام 1991 حين استقلت أرمينيا عن الاتحاد السوفيتى، وهو ما لم أكن أتصور أنه سيحدث خلال حياتى، وحين توفى أزنافور فى بداية هذا الشهر كان يستعد للسفر خلال أيام الى يريڤان عاصمة أرمينيا للغناء هناك، لكن موته حال دون اتمامها. وإذا كانت الصحافة الفرنسية قد تجاهلت زيارات أزنافور المتعددة للوطن العربى وزيارته الأخيرة لمصر والتى قال لى أنه سيظل يتذكرها بقية حياته، فإن علاقته بالعالم العربى لم تكن قاصرة على هذه الزيارة فقد غنى فى مهرجان جرش بالأردن، كما قدم عدة حفلات فى بيروت، وحين جاء لزيارتى فى منزلى الريفى بدهشور إكتشفت علاقات أخرى لأزنافور بالوطن العربى، فقد أحضر معه بعض أفراد عائلته وكان من بينهم إبنه نيكولا وزوجته التى اكتشفت أن أحد والديها من المغرب والآخر من تاهيتى، كما اكتشفت أن إبنته كاتيا متزوجة من الشاب الجزائرى رشيد، لكن الصحافة الفرنسية لم تتوقف كثيرا عند أى من هذه التفاصيل. لمزيد من مقالات محمد سلماوى