القول بصدام بين الدين والعلم، وهم وعبث، فمصدرهما واحد، ومؤلفهما واحد، الخالق تبارك وتعالي، فلا تناقض بين النصوص المقدسة الموحاة وبين قوانين الطبيعة التى هى كتاب مقدس للتأمل والتفكير، والله لا يخون قوانينه ولا يتراجع عن شرائعه وإنما الخلاف قائم فى فهم هذه الكتب وفى اجتهادات العقول البشرية التى قد تصيب وقد تخطئ، والمكتشفات العلمية كافة فى الماضى والحاضر والمستقبل لا تتعارض إطلاقاً مع وجود قوة إلهية تتخطى إدراكنا ولها دور وفاعلية وهيمنة على هذا الكون الفسيح وعلى الطبيعة المتجددة والحياة المتدفقة ، وإن كان عقل الإنسان أرقى من عقل الحيوان فلا بد أن يكون هناك عقل أسمى وأرقى هو الذى خلق عقول البشر، وكلما ازدادت مكتشفات العلوم وإبداع العباقرة ازداد جهلنا على حد قول آينشتاين، وما أوتينا من العلم إلا قليلاً، وهذا العلم القليل أكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أن الخالق هو المهيمن فلا صدفة، ولا عدم، ولا فوضى أو فراغ فى هذا الوجود. ويقر العلماء المؤمنون وغير المؤمنين بحقيقة صارخة حاسمة تقول إن العلوم كافة والفلسفات، لا تقيم دليلاً واحداً على عدم وجود خالق، ومعارفنا يشوبها النقص والثغرات والنظريات قد تتبدل ، والكون فى حركة دائمة كما أن الطبيعة فى مخاض متصل وما العلوم إلا ثمرة رائعة لاجتهاد العقول، فالعلم مجاله ما يقع تحت الحواس أما عالم الإيمان والروح فهو يتخطى حاجز العلوم التى تطرح أسئلة أكثر من الأجوبة ، الإيمان خروج من الذات واختراق لعالم آخر لا يشرحه العلم. وفكرة التقارب البيولوجى أو العضوى بين الإنسان وبين الحيوان قديمة تطرق إليها فلاسفة اليونان وبخاصة أفلاطون كما تطرق إليها بعض فلاسفة العرب مثل ابن سينا والغزالى والجاحظ يذكر فى كتاب الحيوان هذه العبارة: عقلى هو وكيل الله عندي, وهو ما يميز الإنسان عن باقى الكائنات، وبعد الجاحظ بمئات السنين يقول الفيلسوف أوجست كانط: الإنسان حيوان ناطق معنى ذلك ببساطة أن الكائنات التى خلقها الله تشترك فى بعض الغرائز كما تشترك فى حاجتها للأوكسجين والغذاء والتناسل لكن لكل من الحيوان والإنسان برغم هذا التقارب والتشابه فى الغرائز، تكوينه الخاص، وسمات الإنسانية غير سمات الحيوانية وكلها تخضع لسنن وقوانين إلهية، وقد تتطور وفق نظرية داروين فى حدود طبيعتها وتكوينها وما خلقت عليه ، لكن أبداً لن يصبح الحيوان إنساناً، ولن يصبح الإنسان حيواناً ، وداروين هذا العالم العظيم لم يتطرق بكلمة عن عالم الغيب أو التكوين الوجدانى والروحى للإنسان، وإنما أبدعت عبقريته فى الكشف عن تطور الكائنات فى حدود ما خلقت عليه، وداروين الذى ولد سنة 1809 فى عائلة من أهل العلم والطب ولكن ولعه بعلوم التاريخ الطبيعى والجيولوجى دفعه إلى الانصراف إلى ما تأصل فى نفسه من ميل وهواية غرسها فى كيانه الخالق العظيم فانكب على دراسة الكائنات وهو يقول :إن ميلى نحو التاريخ الطبيعى وهواية جمع العينات كانت واضحة جداً منذ بداية دراستى سنة 1817 (د. محمد يوسف حسن مذكرات داروين الهيئة المصرية العامة للتأليف) أرسله أبوه إلى جامعة كامبردج ليدرس اللاهوت ويصبح قسيساً مما حفظ له إيمانه بالدين وممارسته وهو يقول :لقد كان البحث العلمى متعتى الرئيسية وعملى الأساسى طيلة حياتي. وصدر كتابه أصل الأنواع بطريق الانتخاب الطبيعى سنة 1859 وفجر الكتاب ما يشبه الثورة العلمية، تيار فكرى يرفض نظريته فى تطور الأجناس ويتهمه بالإلحاد وهم من القائلين بحرفية النصوص المقدسة (خاصة كتاب العهد القديم) وهى المرجع الوحيد لفهم جذور ونشأة الإنسان والحياة على الأرض، واحتدم النقاش خلال نصف قرن وتحفظت الكنيسة أمام نظريته كما رفضت الجامعات الغربية تدريسها وللأسف أوجزت خطأ هذه النظرية العلمية فى القول بأن الإنسان أصله قرد، ورفعت على تعاليمه قضايا منها ما عرف بقضية القرد سنة 1925 حتى جاء الرئيس ريجان وبعده الرئيس جورج دبليو بوش وصرحا بتعليم النظرية فى مدارس وجامعات أمريكا بشرط أن يعلم الكتاب المقدس بجوارها . وأعلن كل منهما: نعم لنظرية داروين كنظرية علمية لا أكثر ولا أقل ولم يتوقف حوار الأفكار حول علم التطور الذى جاء به داروين. ومنطلق هذه النظرية العلمية من قوانين الطبيعة: قانون التنوع والتعددية وقانون التطور والنشوء، وشرح داروين الصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح، والتمايز بين الكائنات، إلى آخر ما اجتهد فيه داخل دائرة العلم ولم يقل إنه خلق خلقاً جديداً، ولم ينكر أن التطور الذى يقول به إنما ثمرة ملايين السنين وثمرة وجود قوانين صارمة حاسمة تحكم الخليقة، ولم يشر من بعيد أو من قريب إلى قضايا دينية ولا الغيب أو إلى ما وراء الطبيعة، حاول داروين أن يشرح بعضاً من النظام الكونى لا أكثر ولا أقل، وأختم هذا المقال بما بدأت به، لا صدام بين الدين والعلم ، ولا ينبغى الخوف من أى علوم يكتشفها العلماء ، فالطبيعة حبلى بالأسرار ولا أدل على وحدانية الخالق وجلاله من قوانينها ، ألا ينبغى والمنطقة العربية تسعى لنهضة ثقافية وتجديد فى مناهج التعليم أن نتيح للعقل العربى الانفتاح على الثقافات المتعددة والنظريات العلمية الحديثة دون خوف أو شك لأن مصر كما يقول بعض المؤرخين هى حاضنة الوحدانية قبل الأديان ومدرستها بعدها، فلا خوف من العلم. لمزيد من مقالات ◀ د. الأنبا يوحنا قلته