لو قُدِّر للجزائر هذه الأيام أن تُشكِّل ذاتا واحدة ناطقة، لها شخصيتها المُميزة، التى تجمع الأنفس الشًّح والكريمة، المُلْهَمَة بالفجور والتقوي، والأرض بما فيها، ومسار الزمن، والعلاقات بين أهلها من جهة والآخرين من جهة ثانية، لصرخت بأعلى صوتها: لقد فقدت أحلام اليقظة، فأنَّى لى الحديث عن أحلام كانت بمثابة الرؤيا قبل أن تُدْرِكُها الآراء المختلفة، التى هى نتاج الفعل المتغير فى ركب الزمن، وبناء على قولها تبْدو اليوم بدون أحلام، وهذا أمر مزلزل وجَلَل، والحديث هنا منصب بالأساس على الأحلام الجماعية، التى تجعل مع الوقت الخيال حقيقةً، والوهم واقعا، والأمال تحققا، ومع أن البعض يرى بصيص أمل لعودتها يوما ما من خلال أحلام المواطنين الفردية، إلا أن ذلك يَظلُّ مرحلة سابقة عن الفناء فقط، نظرا لتحطّم الأخلام الفردية على صخرة الهوان الجماعي. الجزائر، التى فُرِض عليها القتال وهو كره لها فى معظم حياتها، لدرجة أنها فى بعض مراحل تاريخها عاشت ويلات حروب متواصلة لأربعة قرون متتالية من قوى أدارت أن تُطوِّعُها لأجل مصالحها الاستعمارية، نجد ضياع أحلامها اليوم ليس تعبيرا عن وصف لمعاناة جماعية فقط، ولا هو اقرار بواقع أكبر من أن يوصف أو يُتَابع فحسب، وإنما هو حالة من الكشف والتَّجلّى للعبث الوجودي، مع أنها ظلت عصيَّة على أعدائها، وربما لذلك السبب نمت فيها جينات المقاومة، على النحو الذى رأيناه فى ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، التى لولاها لانتهى الوجود الجزائري، غير أن تلك الجينات تتحول أحيانا إلى عنف داخلي، وتمرد على السلطة المركزية للدولة، كما حدث فى العشرية الدموية السوداء، خلال فترة تسعينيات القرن الماضي. لا يزال معظم الجزائريين فى الداخل والخارج يقارنون مسيرة حياتهم، الفردية والجماعية، فى بُعْديْها السَّعيد والشَّقى بما تحقق من وعود هى بمثابة أحلام يقظة من فريق الفعل الثوري، والمحدد نصا ب «بيان ثورة أول نوفمبر1954م»، وما تبعه بعد الاستقلال من مواثيق ودساتير من جهة، ومن الدولة ومؤسساتها المختلفة، وخاصة الجيش أثناء مقاومة الإرهاب وبعده من جهة ثانية، ما يعنى أن أحلامنا بنات شرعيَّات لِحَدَثِيْن كبيرين فى تاريخ الجزائر، وتلك الأحلام ضاعت، والسبب أننا اخترنا على مستوى القيادات بما فيها أحزاب المعارضة، طريق الفساد عن طريق الصلاح، وكانت النتيجة هذا الغرق الذى تعيشه الجزائر، حيث لا يُرَى فى الأفق «إلى خروج من سبيل» إلا بحدوث تغير على نطاق واسع. المفسدون فى الجزائر والمستفيدون منه، لم يكتفوا بقتل أحلام النوم وأحلام اليقظة، ولكنهم حوَّلوُا الفساد إلى ثقافة اجتماعية عامة، وهذا يَحول دون ضربنا للأمثلة لأنها لا تخص قطاعا واحدا أو مجالا بعينه، والحديث عن السلطة والانتخابات بما فيها الاستحقاقات المتعلقة بالانتخابات الرئاسية فى شهر أبريل المقبل، لجهة ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة المريض والعاجز إلى عهدة خامسة من عدمه، ماهو إلا تعبير عن الحالة التى وصلت إليها الجزائر من قتل علنى مع سبق الإصرار والترصد لكل الأحلام، من طرف جماعات الفساد، وقد نتج عن ذلك خياران أمام الشعب، الأول: الاندماج الكلى فى حِقْبَة الفساد، حتى إذا ما رَبَت وزينت بزخرف أفعال من أَحَلُّوا الجزائر دار البوار، وظنُّوا أنهم قادرون عليها، جاء ما نراه اليوم من تمرد اجتماعى عام، وتخّطَّفّ الناس أهلها منرجال ونساء وأطفال بأمراض بادت ثم عادت، وبنشر للمخدرات بين كل الأعمار، وإضراب من أجل الحقوق شملت كل القطاعات فى ظل غياب كامل للواجبات، ناهيك ما يحدث فى دول الجوار المجاورة من حروب، نارها أو على الأقل شرارها سيُصِيبُ الجزائر لا محالة. والخيار الثاني: البحث عن طريق موازٍ للعيش، يكون مختلفا عن أساليب السلطة، وتحقق هذا بالفعل من خلال الهروب إلى حيث فضاءات تحقق مصالح الناس بعيدة عن قوانين الدولة، لكن يحكمها العرف الاجتماعي، وهنا يتم توظيف التاريخ والذاكرة لاسترجاع حِيَل التأقلم مع الظّروف الصَّعبة، وهذا يعنى أن قَتْل أحلام اليقظة جعل كثيراً من الجزائريين يعيشون بِقِيمٍ غير معاصرة لزمانهم.. إنه هروب من التاريخ، ومن الزمن، ومن سيادة قانون الغاب من طرف النظام على خلفيّة عدم تحقيقه وعود الحَدثَيْن الكَبِيرَيْن: ثورة التحرير، ومقاومة الإرهاب. يضاف إلى ذلك الخروج العلنى والمؤلم من الجغرافيا، حيث غرق الهاربون من جحيم الأوطان فى اليمّ، حين عجزوا عن الحصول على تأشيرات الدول الأجنبية بعد انتظارهم الطويل، ووقوفهم أيَّاماً أمام أبواب سفاراتها، بما فيها تلك التى استعمرت بلادهم ونَهَبت خَيْراتها فى الماضي، وتَنْهَبُها اليوم عبر الشركات المتعددة الجنسيات.. تلك حالة عربية، تتفاوت نسبتها من دولة عربية إلى أخري، غير أنها فى الجزائر أعمق لأن شروط تحقيق أحلام اليقظة، وحتى أحلام النوم مُمْكنة، فلماذا لم تحقق إذن؟.. اِسْألوا من يريدون أن يكون رئيس الجزائر فى المستقبل جزءاً من الماضى البعيد. لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه