قبل أن أبدأ حديثى هذه المرة عن أهم المهام التى يقابلها أى وزير ثقافة ويتعامل معها فى أهمية بالغة فى وزارته وأنا أقصد بذلك الثقافة الجماهيرية وما يطلق عليها الآن قصور الثقافة وأنا أفضل التسمية الأولى لأنها أكثر شمولا وتقترن بالجماهيرية وهى فى حد ذاتها وزارة بمفردها خاصة أنها تشمل كل ما ذكرناه من مهام وأرجو ألا تنزعج الدكتورة الوزيرة من هذا الكلام فلقد سبق وأخبرتها بأن المهمة التى تتولاها هى مهمة شاقة للغاية إلى جانب المهام الأخرى المتفرقة وأن موقف الدكتورة الوزيرة بالنسبة لكل هذه المهام مثل قائد الأوركسترا الذى يختار مجموعته من العازفين حيث يضع كل واحد فى المكان المناسب ويأخذ منه من العزف أفضل ما عنده وهو بذلك أشبه برئيس تحرير الجريدة اليومية الذى يختار مجموعة من أفضل الكتاب والمحررين الذين يساعدونه على الارتقاء بالجريدة بشكل يحقق طموحه تماما كما يفعل على سبيل المثل رئيس تحرير جريدة الأهرام منذ أن تولى هذه المهمة الصعبة فإذا هو يتميز بالمهنية العالية فيرفع من شأن الجريدة والاعتداد بتاريخها الذى لا ينافسها فى قيمته أى جريدة أخرى وفى الوقت نفسه تحيطه كوكبة من خيرة الكتاب والمحررين الذين يقدمون له أفضل ما يطمح إليه رئيس تحرير فهم يدركون تماما ما يجب أن يكتبوه من أجل الارتقاء بمستوى الجريدة لتظل دائما فى المقدمة أيضا بالإضافة إلى ما يتميز به رئيس التحرير أيضا من دماثة الخلق وحسن التعامل بحيث تجد كل واحد فى الجريدة يعطى أفضل ما عنده واضعا فى اعتباره القارئ الذى ينتظر منه هذا العطاء ولذلك عادت الأهرام إلى سابق عهدها بعد أن كادت تفقد تميزها على يد بعض الذين جاءوا من قبل وتولوا أمرها. وأحسب أن الدكتورة الوزيرة تعى كل هذه الأمور وعندما قابلتها وجلسنا نتحدث لمست فيها الحماس والرغبة فى أن تكون مختلفة عمن سبقوها فى هذا المنصب تحدوها الآمال العريضة فى إعادة بناء هذه الوزارة. أقول للدكتورة الوزيرة إن الثقافة الجماهيرية هى الأساس الراسخ الذى يجب أن ينبنى عليه أى نشاط ثقافى ويبدو أن كثيرا ممن تولوا أمر الثقافة فى مصر لم يدركوا أهمية الثقافة الجماهيرية. تدين الثقافة الجماهيرية لأعظم وزراء الثقافة على الاطلاق ثروت عكاشة فإن هذا الرجل يعتبر ظاهرة سوف تظل مضيئة فى تاريخ الفكر والثقافة، وقد أخذ فكرة الثقافة الجماهيرية عندما كان يعمل فى فرنسا حيث تنتشر قصور الثقافة فى ربوعها. وأذكر عندما ذهبنا إلى مهرجان كان فى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى حيث كان فيلم «الحب فوق هضبة الهرم» وبعد عرضه رسميا فى مسابقة نصف شهر المخرجين أصر القائمون على المهرجان على عرض الفيلم فى بعض قصور الثقافة حيث ذهبت أنا والمخرج عاطف الطيب والمنتج عبدالعظيم الزغبى وحضرنا العروض وتناقشنا مع الحاضرين الذين كانوا يتزاحمون على الحضور والنقاش. عندما تولى ثروت عكاشة وزارة الثقافة جمع شتاتها من خلال نظرة شاملة و لم يكن متحيزا لأى فرع من فروع الثقافة بل إنه نظر إليها نظرة عادلة متوازنة تحقق مفهومه لكلمة ثقافة، وثروت عكاشة لا يختلف فى رأيى عن طه حسين فى عمق رؤيته للتعليم والثقافة فى مصر وإذا كان طه حسين نادى كما تعلم الدكتورة الوزيرة بأن التعليم مثل الماء والهواء وقام بتطبيق مبدأ مجانية التعليم فإن ثروت عكاشة قد قام بتطبيق مجانية الثقافة، أنشأ أكاديمية الفنون لدراسة المسرح والسينما وفنون الموسيقى واستقدم كبار جهابذة الفنون من دول مختلفة للتدريس فى معاهد الأكاديمية، أنشأ مؤسسة المسرح بمسارحها المختلفة حيث كانت تقدم على خشباتها أرقى المسرحيات المصرية والأجنبية، أنشأ مؤسسة السينما للإنتاج والتوزيع ودور العرض، أنشأ مؤسسة التأليف والترجمة والنشر التى أسهمت فى تشكيل عقول مئات الألوف من المصريين بسلاسل من الكتب الثمينة القيمة الرخيصة الثمن حتى وصل ثمن الكتاب من سلسلة المكتبة الثقافية إلى قرشين فقط. فتح أبواب دار الأوبرا التى أطالب الدكتورة الوزيرة مرة أخرى بإعادة إنشائها بشكل ضرورى جدا فى حفلات صباحية نرجو إعادتها للأوركسترا السيمفونى بأسعار خاصة زهيدة للطلبة وعامة الشعب، والإكثار من عروض الأوبرات والباليهات بأداء المصريين. كانت الثقافة الجماهيرية حلما من أحلام ثروت عكاشة وقد نشأ هذا الحلم فى رأسه عندما كان يعمل سفيرا فى البلدان الأوروبية وفى فرنسا خاصة ولم أكن أعلم أنا شخصيا أن فى أوروبا قصورا للثقافة حتى رأيت بعضها عندما سافرت إلى مهرجان كان عام 1984 عندما عرضنا فيلم «الحب فوق هضبة الهرم» ودارت مناقشات بيننا وبين الشباب الفرنسى الذى لم يكن يعلم شيئا عن السينما المصرية وعن مشاكلنا التى عرض الفيلم بعضها. أنشأ ثروت عكاشة نحو أربعة وعشرين قصرا فى أنحاء مصر من مرسى مطروح شمالا حتى أسوان جنوبا، اختار ثروت عكاشة أحد الكتاب اليساريين وهو الكاتب المفكر سعد كامل وهو رجل كان يحظى باحترام الجميع، وفى الحقيقة أن هذا الرجل وضع الأسس التى يجب أن يسير عليها العمل فى هذه القصور بشكل يتيح الإلمام بكل فروع الثقافة للفرد العادى ورغم أنه كان يختار رسله للإسهام فى نشر هذه الثقافة من أهل اليسار شبابا وشيوخا إلا أن الفائدة كانت فى الواقع أكبر من هذا الانتماء الفكرى خاصة أن سياسة الدولة كانت تميل فى ذلك الوقت إلى ذلك الانتماء. لمزيد من مقالات مصطفى محرم