يُقال إن الموت كلمة بسيطة، لكن تأثيرها كبير في المرء، إذ لا دواء للموت، ولا يأتي متأخرا أبدا، ولا مفرَّ منه؛ فإن كنا سنعاينه فما نفع كنز المال ما دام لا يملك إنقاذ أحد منه؟.. جنون مطبق، إذًا، أن يموت المرء غنيا ويعيش فقيرا، أو أن يهدر وقته في ما يقطعه عن الدار الآخرة، بينما ينتظره الموت فيقطعه عن الدنيا وأهلها. يلخص الشيخ علي الطنطاوي، يرحمه الله، تحت عنوان: "عند موتك لا تقلق"؛ حال الإنسان بعد موته مباشرة، فيقول (بتصرف): "لا تقلق لجسدك البالي عند الموت.. فالمسلمون سيقومون باللازم.. سيجردونك من ملابسك، ويغسلونك، ويكفنونك، ويخرجونك من بيتك، ويذهبون بك إلى بيتك الجديد (القبر). وسوف يأتي بعضهم، وربما كثيرون، لتشييع جنازتك؛ سيلغون أعمالهم ومواعيدهم كي يدفنوك.. أما أمتعتك الشخصية: مفاتيحك، كتبك، حقيبتك، أحذيتك، ملابسك.. فسوف يتصدق بها أهلك لتنفعك؛ إن كانوا موفقين". ويضيف الطنطاوي: "لن تحزن عليك الدنيا، ولن تتوقف حركة العالم، فاﻻقتصاد سيستمر، ووظيفتك سيقوم غيرك بها، وأموالك ستذهب للورثة، بينما أنت التي ستُحاسب عليها.. أما أول ما سيسقط منك عند موتك فهو اسمك، إذ سيقولون: أين "الجثة"، وقبل الصلاة عليك سيقولون: "احضروا الجنازة". وعندما يشرعون بدفنك سيقولون: "قرِّبوا الميت". ويتابع: "اعلم أن الحزن سيكون عليك ثلاثة أنواع: الناس الذين يعرفونك سطحياً سيقولون "مسكين"، وأصدقاؤك سيحزنون لساعات أو أيام ثم سيعودون إلى حديثهم بل وضحكهم، ويتبقى الحزن العميق في البيت.. سيحزن أهلك أسبوعا.. أسبوعين.. شهرا شهرين أو حتى سنة.. وبعدها سيضعونك في أرشيف الذكريات، وبهذا ستكون قد انتهت قصتك بين الناس؛ لتبدأ قصتك الحقيقية مع الآخرة. والسؤال: ماذا أعددت لها من الآن؟". سؤال ثان: لماذا يختار الميت "الصدقة" إذا رجع للدنيا، كما في قوله تعالى: "وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ، وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ". (المنافقون:10 و11). فلم يقل: "لأعتمر، أو أصلي، أو أصوم"؟. قال العلماء: "ما ذَكر الميت الصدقة إلا لعظيم ما رأى من أثرها بعد وفاته"، إذ يأتي المؤمن في ظل صدقته يوم القيامة. إن هذا ما يؤكده الحديث الطويل للْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، رضي الله عنه، الذي فيه أن رَسُول اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي". قَالَ: "وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ؛ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُك الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمْ السَّاعَةَ". (رواه أحمد وصحَّحه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"). [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد