قبل خمسة وعشرين عاما من اليوم التقطت الصورة الأشهر فى مسيرة عملية التسوية السلمية للقضية الفلسطينية. الصورة جمعت بين الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلى الراحل إسحاق رابين، والرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون بالبيت الأبيض فى الثالث عشر من سبتمبر عام 1993 لتوقيع اتفاق أوسلو. الصورة أعطت آمالا كبيرة للفلسطينيين بإمكانية الوصول على الأقل قبل بدء الألفية إلى دولة فلسطينية عاصمتها القدسالشرقية. الصورة التى تبدو عليها القضية الفلسطينية اليوم عكس الصورة التى كانت قبل ربع قرن تماما. الصورة الحالية لا تسع كلا من الرئيس الفلسطيني، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، والرئيس الأمريكي، فقد تباعدت مواقفهم بشكل لم يحدث من قبل. فرئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو كاره للسلام ويراه فى غير مصلحة الإسرائيليين، ويسعى لدولة يهودية خالصة، ولا يعنى من قريب أو بعيد بفكرة السلام العادل الذى يؤمن للفلسطينيين دولة مستقلة. والرئيس الأمريكى يريد أن يفرض وجهة نظرة بإمكانية حل القضية عن طريق الصفقات، متصورا أنه قادر على فعل ما فشل أسلافه فى فعله. اتخذ قرارا هو الأكثر كارثية بنقل السفارة الأمريكية للقدس ليثبت أنه مختلف عن أسلافه، ويتوهم أنه قادر على الضغط على الإسرائيليين لدفع ثمن ما أعطاه لهم! أما الرئيس الفلسطينى محمود عباس والذى شارك فى كواليس إخراج الصورة فقد أجبر على إنفاق عشرة أعوام فى البحث عن السلام ليس مع الإسرائيليين، ولكن مع حماس التى انفصلت بغزة ورهنت القرار الفلسطينى فى كثير من الأحوال لتصورها ولمواقف بعض الدول الإقليمية التى لم يكن يعنيها يوما سلاما فى المنطقة أو حصول الفلسطينيين على دولة مستقلة. الصورة الحالية باختصار ترجح كفة القائلين بأن أوسلو وصورتها ومنهجها أصبحت فى ذمة التاريخ، بل ويغالى البعض الذى عارضها منذ البداية ليؤكد أن خيار أوسلو كان خطأ منذ البداية. خمسة وعشرون عاما من البحث عن السلام لم يبق منها سوى سلطة وطنية فلسطينية وعلم فلسطينى مرفوع فى المقاطعة فى رام الله، بينما المستوطنات تتمدد والنفوذ الإسرائيلى يتوسع، والفلسطينيون منقسمون على أنفسهم جغرافيا وسياسيا وفكريا مشتتين فى الإجابة على سؤال الطريق الأمثل لإقامة الدولة الفلسطينية. ففتح فى أغلبها مقتنعة بخيار السلام، ومعها مصر، وغالبية الدول العربية ما زالوا متمسكين بأن السلام هو خيار العرب الإستراتيجي. أما حماس فظلت طوال الأعوام الخمس والعشرين السابقة تتعامل مع أوسلو بشكل برجماتى ضيق للغاية تستهدف به الحصول على أقصى ما يمكنها تحصيله من المكاسب الفصائلية رغم إنكارها لمسار أوسلو. إذ شاركت حماس فى الانتخابات الفلسطينية التى تعد أحد إفرازات أوسلو، فبدا أنها مصرة على حيازة السلطة، وإقامة دولة فى غزة بصرف النظر عن طبيعتها أو عن تأثيرها على المشروع الوطنى الفلسطيني. حماس التى تكمل عامها الحادى والثلاثين فى الساحة الفلسطينية كانت موجودة أثناء التقاط صورة أوسلو، ولكنها لم تكن آنذاك قادرة على تعطيل المسيرة. كان الرئيس ياسر عرفات قادرا على ضبط إيقاع التفاعلات الفلسطينية، وكانت حماس بقيادة الشيخ أحمد ياسين تعرف جيدا أن الهدف هو الدولة الفلسطينية، وأن الخلاف حول طريقة التعامل مع الإسرائيليين يجب ألا يحول دون أن يبقى الشعب الفلسطينى موحدا، وأن السلاح الفلسطينى لا يمكن تحت أى ظرف من الظروف أن يوجه إلى الداخل الفلسطيني. وبكل تأكيد فإن التعنت الإسرائيلى فى التعامل مع المفاوضات، وعدم الالتزام بتعهدات أوسلو وتقاعس الطرف الأمريكى عن إنفاذ الاتفاق، الذى تم برعايته، قد أحرج كثيرا الجانب المؤيد لأوسلو وساعد حماس ومؤيديها فى المزايدة على أوسلو وأنصارها والتنكر لفكرة السلام. إضافة إلى ذلك، فإنه بينما كانت الصورة قبل ربع قرن تشير بجلاء إلى دفء العلاقة بين الرئيس الفلسطينى والرئيس الأمريكي، فإن الصورة اليوم تشير بجلاء مماثل إلى فتور وبرود غير مسبوق فى العلاقة بين الرئيسين. إذ بدا الرئيس الأمريكي، وكأنه يعاقب الرئيس الفلسطينى والفلسطينيين على رفض, أو على الأقل عدم التجاوب بالشكل الذى تصوره الرئيس الأمريكى مع الصفقة التى طرحها لتسوية الصراع بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلي، وبدأ ذلك العقاب بقراره منح القدس للإسرائيليين فى انحياز سافر للجانب الإسرائيلي، وخروج مستفز عن القواعد التى حكمت الموقف الأمريكى منذ اتفاق أوسلو، بما دفع الفلسطينيين إلى عدم الترحيب بالتعامل مع الرئيس الأمريكي، واعتباره غير صالح لأى وسيط فى عملية السلام، ومن ثم رفض عباس استقباله نائب ترامب ورفض التعامل مع الطاقم الذى عينه لإدارة ملف عملية السلام. وصولا إلى رفض طلب الرئيس الأمريكى قبل عدة أيام لقاء الرئيس الفلسطينى على هامش اجتماعات الأممالمتحدة فى الأسبوع الأخير من الشهر الحالي، رغم الضغوط والوساطات. والأهم من ذلك ما تناقلته الأخبار من أن الرئيس محمود عباس، اشترط لإتمام ذلك اللقاء تعويضا سياسيا عن قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإقالة طاقم المفاوضات الأمريكى الحالي، خاصة جاريد كوشنر، والمبعوث جيسون جرينبلات، والسفير الأمريكى فى إسرائيل ديفيد فريدمان، إضافة إلى تقديم تنازل سياسي، أو تعويض مقبول يلغى بموجبه المواقف السابقة المنحازة لإسرائيل. وفى مقابل ذلك الفتور الذى يغلف العلاقة بين الرئيس الفلسطينى والرئيس الأمريكى فإن العلاقة بين الأخير ورئيس الوزراء الإسرائيلى وصلت إلى درجة من الدفء والحميمية إلى الدرجة التى لم تصلها علاقة بين أى رئيس أمريكى وإسرائيل من قبل. وهو الأمر الذى يطرح الكثير من المخاوف بشأن التطورات التى قد تشهدها القضية الفلسطينية خلال الشهور المقبلة والتى لن يكون من ضمنها أيضا صورة تشبه الصورة التى التقطت قبل ربع قرن، ولن يكون من ضمنها أيضا ما يمكن أن يبعث على الأمل والتفاؤل لدى الشارع الفلسطينى على نحو ما حدث عند توقيع أوسلو التى يتنكر لها الجميع اليوم بمن فيهم الرئيس محمود عباس الذى أعلن من فوق منصة الأممالمتحدة قبل ثلاثة أعوام أن إسرائيل أنهت أوسلو، ولم يعد ممكنا الالتزام بها، أما صفقة ترامب فقد وصفها بأنها «صفعة العصر». لمزيد من مقالات د. صبحى عسيلة