فى كل ما صدر من كتُب أو كتِب من مقالات فى الذكرى ال 12 لرحيل كاتبنا الأكبر نجيب محفوظ لا شك عندى فى أن كتاب المحرر الأدبى القدير محمد شعير: أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة, الصادر عن دار العين، هو الأهم وهو الأبقى، حيث أضاف شعير للمكتبة العربية بحثا جادا حول واحدة من أهم الروايات العربية قاطبة، فتتبع سيرة رواية محفوظ الخالدة من قبل مولدها، وخلال نشرها مسلسلة فى الأهرام عام 1959، ورصد المعارك التى لازمتها طوال أربعة عقود وحتى محاولة اغتيال كاتبها عام 1994، ثم رحيله بإرادة الله بعد ذلك ب12 عاما، وذلك بأسلوب استقصائى عميق لا يخلو فى نفس الوقت من التشويق والإثارة. والحقيقة أن أولاد حارتنا بما أثارته من جدل على مختلف المستويات السياسية والثقافية والدينية، إنما تتداخل سيرتها مع الأوضاع التى كانت قائمة فى عصرها فتتفاعل معها بشكل ربما كان سيختلف لو أن الرواية صدرت فى عصر آخر قبل أو بعد ذلك العصر، لذلك نجد المؤلف يتطرق فى رصده سيرة الرواية، للأوضاع السياسية التى كانت سائدة فى فترة الستينيات، وموقف محفوظ منها، بل وموقفها من محفوظ، ويتطرق أيضا للمؤسسة الدينية وموقف بعض شيوخها من الرواية، كما يتطرق إلى الوسط الثقافى والمواقف المتباينة لبعض الكتاب والأدباء من محفوظ ومن روايته، ومن المفارقات التى تتضح فى هذا الصدد أن أكثر تلك الدوائر صراحة ووضوحا فى موقفها من الرواية كان شيوخ الأزهر، فقد كان موقف هؤلاء - رغم خطئه البين - واضحا لا لبس فيه، بينما اتسم موقف بعض المثقفين بالمراوغة، وفى بعض الأحيان بالهجوم المستتر، أما موقف السلطة السياسية فقد حمله الكتاب, معتمدا على أقوال لمحفوظ نفسه, أكثر مما يحتمل، فصورها على أنها كانت ضد الرواية لكنها تسترت خلف بيان الشيوخ الرافض لها، وهكذا بدا وكأن مبادرة السيد حسن صبرى الخولى كانت محاولة من السلطة للحيلولة دون نشر الرواية، وهو رأى يحلو للبعض ترديده معتمدين على أن الخولى كان الممثل الشخصى لرئيس الجمهورية، بينما الحقيقة أنه كان فى ذلك الوقت يشغل منصب رئيس هيئة الاستعلامات ولم يكن ممثلا شخصيا للرئيس، وكان يسعى الى التوسط بين محفوظ والشيوخ الرافضين روايته من أجل تهدئة الخلاف بينهما، كما أن تدخله جاء نتيجة للقائه نجيب محفوظ بالصدفة فى مصعد المبنى الذى يقع فيه مكتب كل منهما ولم يكن نتيجة لتخطيط مسبق. وقد قبل محفوظ أن يلتقى الشيوخ الرافضين روايته وذهب بالفعل الى مكتب الخولى فى الموعد المحدد لكن أحدا منهم لم تواته شجاعة المواجهة فلم يحضروا، وقد اقترح الخولى على محفوظ أن ينشر الرواية خارج مصر حتى لا يزيد من الأزمة المشتعلة وقتها، والتزم محفوظ بهذا الاتفاق الى أن قمت بنفسى بعد ذلك بأكثر من 30 عاما بترتيب لقاء بمنزله من الناشر إبراهيم المعلم والدكتور أحمد كمال أبو المجد والدكتور سليم العوا اتفق خلاله على نشر الرواية لأول مرة فى مصر بمقدمة لكل من الكاتبين الإسلاميين. وبالكتاب, مثل أى عمل بشرى, بعض الهنات التى أتمنى أن يتجاوزها الكاتب فى الطبعات التالية التى أراها قادمة، أذكر منها على سبيل المثال عدم إسناد بعض ما ورد فى الكتاب لمصادره الأصلية، مثل بعض المعلومات الخطيرة الخاصة بجثمان محفوظ، حيث يقول الكاتب أنه تم تمرير الجثمان على جهاز كشف المفرقعات قبل أن يتخذ مكانه أمام رئيس الجمهورية فى الجنازة العسكرية، ولو أن الكتاب ذكر مصدر هذه المعلومة, وهو كاتب هذه السطور الذى حضر الواقعة بنفسه, لاكتسبت مصداقية تفتقدها فى السياق المجهل الذى وردت فيه، ومثل القول بأن النعش الذى تمت الصلاة عليه فى الحسين كان فارغا، وهذا غير صحيح فقد كنت وحدى مع ابن المخرج توفيق صالح اللذين حضرنا غسل الجثمان، وتم وضعه أمامى فى النعش الذى رافقته بنفسى الى مسجد الحسين، ثم بعد الصلاة شاركت فى حمل النعش على كتفى الى السيارة التى تتبعناها الى مسجد آل رشدان حيث شيعت الجنازة العسكرية. ولما كنت أعلم مصدر هذه المعلومة فكنت أرى أن يشير الكاتب الى المصدر الذى سمعها منه ويترك للقاريء أن يحكم عليها بنفسه، ففى حالة صدقها يكون الكاتب قد وثقها وفى حالة عدم صدقها يتحمل مصدرها وليس الكاتب وزرها، فمثل هذه المعلومات الخطيرة لا تطلق هكذا بلا أسانيد كما يحدث فى بعض التحقيقات الصحفية التى تعمد الى الإثارة، وفى كتاب بمثل هذه الجدية والتعمق كان يجب إسناد المعلومات الى مصادرها اتباعا للأسلوب الذى التزم به الكتاب بشكل عام. من ناحية أخرى فقد وجدت الفصل الخاص برواية اللص والكلاب دخيلا على الكتاب رغم ما به من تحقيق جيد، ولم يكن ما ذهب اليه الكاتب من ارتباط فى الأفكار بين الروايتين مبررا لإقحام ذلك الفصل فى سيرة رواية أخرى، فالارتباط فى الأفكار موجود بالضرورة بين جميع أعمال الأديب، أى أديب. هذا بالطبع لا ينتقص بأى حال من الأحوال من قيمة هذا الكتاب الذى يملؤى ثقة بأن جيل عمالقة النقد الأدبى الذى ولى قد ترك وراءه باحثين جادين يستطيعون دراسة روائعنا الأدبية وتأصيلها كما فعل باقتدار محمد شعير بأسلوبه الخاص الذى يعتمد على البحث والتقصى والتوثيق، وهو ما صرنا نفتقده فى معظم ما يصدر هذه الأيام، لقد قدم لنا شعير فى هذا الكتاب القيم نهجا جديدا يعتمد على كتابة سير الأعمال الأدبية، ولعله يتخصص فى هذا النوع من الكتابة الذى لم يسبقه إليه أحد. لمزيد من مقالات محمد سلماوى