احتفلت مصر الأسبوع الماضى بعيدى الأضحى والعذراء معاً. واعتدنا أن تكون لأعيادنا طابع خاص على كل المستويات، فعلى المستوى الروحى امتلأت الجوامع والكنائس بالمصريين، كل منهم ذهب للعبادة والصلاة ليعود بفرح العبادة الصافى الذى يهب الروح سعادة من نوع خاص. ثم يأتى العمق الاجتماعى فتتبادل العائلات الزيارات وتتحول موائد الطعام إلى حالة حب دافئ يجمع الكبار والصغار. وتبادل المصريون التهنئة بالأعياد، فالقبطى يعيد على أخيه المسلم فيرد عليه المعايدة أيضا لعيد العذراء، لتظهر مصر الحقيقية التى لا يعرف مواطنوها إلا الحب. كما ذكر اللورد كرومر الذى عاش فى مصر ما لا يقل عن ربع قرن (1882-1906م) الذى قال: فى مصر لا يمكن أن تعرف الفرق بين المسلم والمسيحى إلا حينما يذهب هذا إلى الجامع وهذا إلى الكنيسة. وكما كان فى الماضى هكذا الحاضر نفرح بأعياد بعض، فيفرح المسيحى مع أخيه المسلم فى شهر رمضان وعيد الفطر والأضحى ومولد النبي، ويفرح المسلم مع أخيه القبطى بعيد الميلاد والغطاس والقيامة دون الخوض فى العقائد. فالعيد هو فرح للجميع، والعقائد أمور تخص الفرد فى علاقته بربه، وإيمانه بالله يحتم عليه أن يحب لأن الله محبة. ومجيء عيد الأضحى مع عيد العذراء كان له أثر كبير فى إضفاء شيء من السعادة على كل البيوت، خاصة أن السيدة العذراء لها مكانة كبيرة فى قلوب المصريين مسلمين وأقباطا. فحين دخلت المسيحية إلى مصر كانت لا تزال آثار الرحلة المقدسة محفوظة فى أذهان كثير من الذين عاصروا مجيء العذراء مريم والسيد المسيح فكانت مشاعر المصريين بالفخر والحب للعذراء التى عاشت وسطنا أربع سنوات عابرة الطرق والبلاد وباركت مصر طولها وعرضها. هذا بجانب ربط المصريين بين السيدة العذراء وبين تراث روحى حضارى خاص ب «إيزيس» والدة حورس التى كان المصريون يسمونها أيضاً أم النور كما أطلق على العذراء، وكان فى الوجدان وأمام العيون تمثال إيزيس وهى ترضع ابنها حورس. وبعد الإيمان المسيحى أصبحت العذراء هى رمز الأمومة إذ كان فى المخزون الحضارى والثقافى صورة إيزيس الأم الحنونة وهى تحمل حورس. والسيدة العذراء لها مكانة خاصة فى العالم كله ففى اليهودية تنبأ عنها إشعياء النبى وقال: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا (إشعياء 7: 14). وكان اليهود حسب النبوءات ينتظرون هذه الشخصية الفريدة التى لن تتكرر فى كل تاريخ البشر أن عذراء تلد ابنا. وفى الإسلام أيضا هى مكرمة جدا إذ ارتبطت بها سورتان فى القرآن وهى سورة آل عمران وسورة مريم. وهى المرأة الوحيدة التى سُميت باسمها سورة فى القرآن وفيها يقول: «وإذ قالت الملائكة يا مريم أن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين». كما يذكر أيضاً أنها عذراء وحبلت من الروح القدس دون أن يمسها بشر (كما ورد فى سورة مريم 16-21). والسيدة العذراء هى مريم ابنة يواقيم وحنة اللذان كانا عاقرين وبعد تقدم العمر بهما جاء ملاك وبشر يواقيم بميلاد العذراء فنذرها لتخدم الهيكل. وفعلا بعد ولادتها بثلاث سنوات أخذها ووهبها للهيكل فأعطاه الرب نسلا آخر عوضا عنها. أما مريم فقضت طفولتها فى الهيكل تتعلم الصلاة والتسابيح والكتب المقدسة، ثم تخدم مع الفتيات فى الهيكل، فلم تعش لذاتها أبداً منذ الطفولة بل قدمت كل أيامها للرب بفرح واتضاع وحب. وحينما صارت فتاة فى سن الرابعة عشرة كان لابد أن تغادر الهيكل حسب الطقس اليهودي، ولما رفضت الزواج وأحبت أن تعيش حياتها فى حالة نذر للبتولية اختاروا شيخا كبيرا تقول مصادر التقليد إنه كان قد قارب التسعين من العمر ليكون مسئولا عنها. وهذه الصورة فى ذاك الوقت تطلق عليها خطيبها فهى تعيش معه ولكن دون زواج فعلي. لهذا حين جاء إليها الملاك ليبشرها بميلاد السيد المسيح قالت له: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا. وكانت حينها فى بيت القديس يوسف النجار. فقال لها الملاك: الروح القدس يحل عليك وقوة العلى تظللك (لو 1: 26-35). أما هى فلم تنزعج أو تجادل الملاك فى آثار هذا وكيف ستواجه الناس وقد يشك فيها القديس يوسف النجار، وهنا تظهر عمق شخصية العذراء فقد قالت للملاك: هوذا أنا أمة الرب، أى عبدة للرب، ليكن لى كقولك. ولكن الملاك ظهر للقديس يوسف النجار وأخبره بالحبل المعجزى لميلاد السيد المسيح دون بشر وقد آمن هو أيضا. وأصبحت هذه هى العائلة المقدسة العذراء وابنها السيد المسيح ويوسف النجار الشيخ الكبير السن والمقدار. وقد احتمل العناء والتعب حين ظهر الملاك له وقال اهرب إلى مصر فأخذ العذراء والطفل يسوع وسافر فى رحلة شاقة لم يذق فيها الراحة من ترحال وهروب لمدة أربع سنوات حتى عادوا إلى الناصرة، وهناك مات القديس يوسف النجار وكان للسيد المسيح ستة عشر عاما والعذراء لا تزال صغيرة. فعمل السيد المسيح نجارا وكان يعولها أيضا. وبعد صعوده إلى السماء عاشت مع القديس يوحنا تلميذ المسيح، ولكن فى آخر سنوات عمرها عاشت فى مكان القبر المقدس الذى يطلق عليه الجثمانية مع عذارى فى تسابيح وصلوات لا تنقطع. وحين بلغت من العمر ثمانية وخمسون عاما أخبرها الملاك بأن السيد المسيح سيأتى ليأخذ روحها لتسكن معه فى السماء، وقد حدث هذا فعلا بل أخذ أيضا جسدها. فجسد العذراء لم يوجد على الأرض وهذا هو سبب الصوم الذى يسبق عيد العذراء فقد صامه التلاميذ والرسل كى يظهر لهم الله أين يوجد جسد العذراء، لأنه لم يجدوه فى القبر وبعد الصوم أظهر لهم الرب أنه فى السماء. وهى فى السماء تصلى لأجلنا ولأجل كل من يطلبها فهى الأم الحنونة التى لا ترد من يطلبها ويتشفع بها. كل عام ونحن جميعاً بخير ويسكن الحب قلوبنا. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس