أرى أن فكرة المستبد العادل من الأفكار الرئيسية التى تشكل جوهر فلسفة الإمام محمد عبده السياسية وتوضيحا لذلك فإن فكر الإمام محمد عبده خاصة ما يتعلق بموضوع السلطة وعلاقة الحاكم بالمحكومين َمّر بمرحلتين أولاهما: مرحلة الحكم الديمقراطي، ودعا فيها محمد عبده إلى الحرية والديمقراطية والحكم النيابى الدستوري، وميز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة، وهو ما يؤكد أن السلطة عنده بمثابة عقد اجتماعى بين الحاكم والمحكوم فى ظل مجموعة من الحقوق والواجبات المتبادلة تحقيقا للتوازن بينهما ودرءا للاستبداد والطغيان، ووسيلة تحقيق ذلك المطالبة بحق المصريين فى التربية والثقافة وإصلاح الأخلاق والصحافة النزيهة والمشاركة فى حياة سياسية حرة، وهذا الحكم الديمقراطى إن وجد سيكون له أثر كبير فى إصلاح طبيعة الشعب وجعل مصر تحتل مكانة كبرى بين الشعوب وتتحول إلى قوة عظمي. أما المرحلة الثانية، فهى مرحلة الحكم الاستبدادى المطلق، حيث شهدت هذه المرحلة تطورا فى فكر محمد عبده، فبعد أن كان يدعو إلى الحرية والديمقراطية اتجه إلى المناداة بنظام «المستبد العادل»، وذلك بالنظر إلى سرعة تتابع أوضاع مصر والأحداث السياسية فيها، وفى مقدمتها فشل الثورة العرابية، ونفى زعمائها إلى خارج البلاد، واحتلال انجلترا مصر، وتمزق أوصال الأمة، والفوضى العقلية، والانحلال الأخلاقى وفساد الاحزاب، ومساوئ الحكومات، فكان لكل هذا دور كبير فى اتجاه فكر الإمام محمد عبده إلى المناداة بنظام الحكم المطلق، بالاضافة إلى ما اصابه من يأس من تحقق الإصلاح السياسى عن طريق التؤدة والتدرج الهادئ لا الطفرة أو الحركة العنيفة، فالتمثيل النيابى إذن وفى مثل هذه الظروف يصبح حديث خرافة ساقه الوهم، وفى اقتناع محمد عبده بالحكم الاستبدادى يقول: «مستبد ُيكره المتناكرين على التعارف، وُيلجئ الناس إلى التراحم، وُيقهر الجيران على التناصف، ويحمل الناس على رأيه فى منافعهم بالرهبة، إن لم يحملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة، ويكفى هذا المستبد خمس عشرة سنة ُيثنى فيها أعناق الكبار إلى ما هو خير لهم ولأعقابهم ويعالج ما اعتلَّ من طباعهم بأنجح أنواع العلاج.. إن هذا المستبد العادل يستطيع أن يعمل من أجلنا فى خمس عشرة سنة الأعاجيب ويدفع بالأمة إلى طريق الرقى والتقدم وهو ما لا نستطيع عمله فى خمسة عشر قرنا. وهذا المستبد العادل، فى رأى الإمام، ليس مستبدا بإطلاق، بل هو عادل أيضا. هو مستبد فى انفراده بإدارة شئون الدولة وتنفيذ إصلاحاتها، وعادل لخضوعه لقانون الدولة، وسعيه إلى إعلاء مصلحة البلاد على مصلحته الشخصية، وعمله على تحقيق ترابط الأمة بالاقناع أولا، فإذا لم يفلح فبالقوة، فإذا استقر هذا النظام ولم يعد يخشى عليه أى خطر، استطاع هذا «المستبد العادل» أن يبيح للشعب قدرا من الحرية يزيد مع الأيام عن طريق تمثيل الشعب فى المجالس البلدية المنقول نظامها عن أوروبا، فالإمام محمد عبده يعتبر مرحلة المستبد العادل مرحلة انتقالية وعلاجا مؤقتا الهدف منه دعوة المصريين إلى تبنى الديمقراطية وتحمل تبعاتها. وقد انتقد دعاة الحرية والحكم النيابى فكرة «المستبد العادل» بالنظر إلى كون الحرية الشخصية حقا طبيعيا للإنسان لا يصح أن يهدر، كما أن الحرية السياسية لابد منها لمعالجة ما أصاب البلاد من الاستبداد، ثم إن المستبد العادل إذا ظفرت به أمة أعقبه فى الأعم الأغلب مستبدون ظلمة إلى جانب أن الاستبداد والعدل نقيضان لا يجتمعان، إذ يتعارض العدل فى الإسلام مع الاستبداد، والإقرار بالمساواة التى يوجبها الإسلام بين جميع أفراد المجتمع حكاما ومحكومين فى الحقوق والواجبات العامة، ورفضه تمييز الحاكم بأى صفة عن المحكومين، إذ تخضع تصرفاته للمناقشة والمحاسبة وهو ليس فوق القانون بل خاضع له يحاسب ويعاقب ويقام عليه الحد تماما كأى فرد من رعيته. د صلاح بسيونى رسلان الأستاذ بكلية الآداب جامعة القاهرة