فى هذه المقالة أستكمل ما قدمته فى المقالة السابقة وأناقش ما قاله الإمام محمد عبده عن حاجتنا لمستبد عادل! وأنا فى هذه المقالة وفى سابقتها لا أتحدث عن نظريات ولا أكتب عن تاريخ مضي، وإنما أجيب على أسئلة مطروحة علينا جميعا وأناقش قضايا راهنة. لكنى أبدأ بكلمة سريعة عن الإمام محمد عبده أوجهها خاصة لمن لم يقرأوا سيرة هذا الرجل العظيم ليضعوا ما قاله فى إطاره وسياقه ويفهموه على وجهه الصحيح. محمد عبده مثقف كبير رائد وضمير حى يقظ. تتلمذ على يد جمال الدين الأفغاني، وتمرد على رجال الأزهر وثقافتهم الموروثة المعلبة، واجتهد فى الاتصال بثقافة العصور الحديثة، وآمن بالحرية والديمقراطية، وانخرط فى الثورة العرابية وتعرض بعد هزيمتها للسجن والنفي، وعاد بعد سنوات من المنفى وقد أصبح على يقين من أن الديمقراطية لن تتحقق فى مصر بحركة عنيفة أو هبة خاطفة، وإنما تتحقق بتربية فكرية وسياسية تقوم عليها حكومة عادلة يخضع لها المصريون ويتعلمون فيها أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. يقول عن الطريق الذى يجب علينا أن نسلكه حتى نصل إلى الديمقراطية: «إن أول ما يبدأ به التربية والتعليم لتكوين رجال يقومون بأعمال الحكومة النيابية على بصيرة مؤيدة بالعزيمة وحمل الحكومة على العدل والإصلاح. ومنه تعويدها الأهالى على البحث فى المصالح العامة واستشارتها إياهم فى الأمر بمجالس خاصة تنشأ فى المديريات والمحافظات. وليس من الحكمة أن تعطى الرعية ما لم تستعد له، فذلك بمثابة تمكين القاصر من التصرف بما له قبل بلوغه سن الرشد» وهو فى مقال آخر من مقالاته التى كتبها فى سنواته الأخيرة يحدد ما يقصده فيتحدث عن «مستبد عادل يستطيع أن يعمل من أجلنا فى مدة خمسة عشر عاما ما لا نستطيع عمله من أجل أنفسنا فى خمسة عشر قرنا»! ونحن قد نقرأ هذا الكلام فنظن أن الإمام محمد عبده يبرر فيه الطغيان ويتنكر للديمقراطية التى ثار من أجلها مع عرابى وتحمل فى سبيلها السجن والنفى والتشريد. لكن قراءتنا لفكر محمد عبده ومسيرته تبين لنا أنه فى حديثه عن المستبد العادل لم يكن يؤيد الاستبداد وإنما كان ينبه للشروط التى يجب أن تتوافر حتى تجد الديمقراطية مكانها فى الواقع وتترسخ فيه وتلبى مطالبه، وإلا فنحن نعرف أن الشرط الأول لقيام الديمقراطية والمادة الأساسية التى تقوم بها ولا تقوم بدونها هى الجماهير الشعبية التى تطلبها وتتبناها لأنها تتحرر بها وتتخلص من الظلم وتنال حقوقها المادية والمعنوية.. فإذا كانت هذه الجماهير فى أوضاع وأحوال لا تسمح لها بالوقوف إلى جانب الديمقراطية وبالدفاع عنها، أو تسمح بالعكس للحكام الطغاة بأن يخدعوها ويزيفوا إرادتها ويسيروها فى مظاهرات يهتف فيها العمال «تسقط الديمقراطية!» كما حدث عندنا فى أزمة مارس 1954 إذا كان هذا هو الوضع فمن واجبنا أن نضع كلام محمد عبده فى محله وأن نفهمه فى سياقه، خاصة ونحن نرى أن أوضاعنا حتى الآن لا تختلف كثيرا عما كانت عليه فى أيام محمد عبده، والمشكلة إذن لا تزال تواجهنا والأسئلة لا تزال مطروحة، وما علينا إلا أن نقرأ ما سجله خالد محيى الدين فى مذكراته من المناقشات التى دارت خلال أزمة مارس بين الضباط المطالبين بالديمقراطية وبين عبدالناصر ومن وقف معه من زملائه الذين قرروا أن يستأثروا بالسلطة ويفرضوا دكتاتوريتهم العسكرية على المصريين لنرى أننا ونحن نقرأمحمد عبده لا نقرأ الماضى فقط. يقول خالد محيى الدين وهو يسجل ما قاله عبدالناصر فى اجتماع طالب فيه بفترة انتقالية يتولى فيها العسكريون السلطة: «فترة الانتقال ضرورية، ولابد منها. فشعبنا لا يستطيع تقدير مصلحته الحقيقية بسرعة. وربما لا تكفى ثلاث سنوات. وشعبنا لا يمكنه تحمل مسئولية الحرية. وقد سبق للإقطاعيين أن اشتروا أصوات الناخبين . وقال عبدالناصر الشعب الذى لا يستطيع أن يتحمل مسئولية الحرية لا يمكنه أن يستمتع بالحرية»! ولاشك أن عبدالناصر كان على حق فى حديثه عن شراء أصوات الناخبين. لكن هذا الحديث لم يكن إلا حجة برر بها القرار الذى اتخذه هو وزملاؤه بمصادرة الحريات والبقاء فى السلطة إلى أجل غير مسمي. وعبدالناصر الذى يعيب على الإقطاعيين شراء الأصوات يعترف فى موضع آخر بأنه لجأ إلى تصرف مماثل، ففى حديثه مع خالد محيى الدين عما فعله لتنظيم إضراب لعمال النقل يقفون فيه مع الحكم العسكرى وتسانده الدولة وتنظمه وتموله يقول «بصراحة نادرة» «لما لقيت المسألة مش نافعة قررت أتحرك. وقد كلفنى الأمر أربعة آلاف جنيه»!
محمد عبده فى حديثه عن المستبد العادل لم يكن يدعو للاستبداد بالطبع، بل كان يدعو المصريين لأن يتبنوا الديمقراطية ويكونوا أهلا لها يستجيبون لشروطها ويتحملون تبعاتها. والدليل على ذلك هو أن هذا المستبد العادل كائن غير موجود فى الواقع. يستطيع الحاكم الذى انفرد بالسلطة أن يكون مستبدا، لكن المستبد لا يستطيع أن يكون عادلا حتى لو رغب وأراد أن يكون كذلك. لأن العدالة لها هى أيضا شروطها التى لا تتحقق بدونها. العدالة لا تتحقق بالرغبة وحدها، وهى تحتاج لكل صاحب رأى ولا تتفق مع الاستئثار والانفراد. فالانفراد يصنع الخصوم والمعارضين من ناحية، ويصنع المنتفعين والمنافقين والخائفين والكذابين من ناحية أخري. وسوف أفترض أن الرؤساء الذين انفردوا بالسلطة فى بلادنا خلال العقود الستة الماضية أرادوا أن يكونوا عادلين فهل كان لهم ما أرادوا؟ لا. لأنه ما كل ما يتمنى المرء يدركه، ولأن الاستبداد والعدل لا يجتمعان. لمزيد من مقالات بقلم . أحمد عبدالمعطى حجازى