«صناعة أمريكية»، «American Made» هو عنوان فيلم أمريكي، أخرجه دوج ليمان عن قصة حقيقية لطيار بإحدى شركات الطيران الأمريكية، كان يقوم بتهريب السيجار الكوبي لزيادة دخله ولضخ الأدرينالين في عروقه الملولة، ثم أصبح مهربًا للسلاح والمخدرات، وله في عالم الجريمة علامات، بعد أن قررت المخابرات الأمريكية استغلال مواهبه بشكل أفضل، كتصوير مناطق النزاع في أمريكا الجنوبية، ثم نقل السلاح إلى جماعات مسلحة هناك، تدعمها الولاياتالمتحدة. باري سيل، في الواقع، أو توم كروز، في الفيلم، منحته المخابرات منزلًا كبيرًا وقطعة أرض بها مطار وعدد من الطائرات، استخدمها في نقل السلاح إلى أمريكا الجنوبية، التي كان يعود منها بالمخدرات. ومع تراكم الأموال لديه، أنعش اقتصاد البلدة الصغيرة، لكنه لم يطالب سكانها بمقاطعة الصناعة الأمريكية، وإلا لصار الفيلم كوميديًا، كذلك الفيلم الذي يقوم ببطولته رجب طيب أردوغان، الذي لا نبالغ حين نصفه بأنه هو أيضًا صناعة أمريكية أو «رجل واشنطن ووكيلها في المنطقة» كما سبق أن وصفه الأستاذ فهمي هويدي، قبل أن يتم تأليف قلبه، ويشدو ب«وصلات» مجاملة، تستقبلها صحف «الخليفة» المزعوم، وقنواته التليفزيونية، بزغاريد كالشهب وتصفق لها على إيقاع راقص!. كوميديا ما بعدها كوميديا، أن تجد صناعة أمريكية يطالب بمقاطعة الصناعة الأمريكية، بعد أن حاول حصر أسباب انهيار الليرة التركية في وجود ما وصفها ب«مؤامرة سياسية» أمريكية ضد تركيا، لمجرد قيام واشنطن بفرض عقوبات شكلية على خلفية ذلك التوتر «البسيط»، في العلاقات القوية، القوية جدًا، البلدين، بسبب عدد من القضايا التافهة، مثل احتجاز قس أمريكي، بتهمتي «الإرهاب» و«التجسس»، ردًا على رفض الولاياتالمتحدة تسليمها الداعية فتح الله كولن الذي تتهمه أنقرة بتدبير محاولة انقلاب يوليو 2016، الفاشل أو المزعوم. أسمعك تسأل بدهشة وربما بسخرية: هل حقًا أطلق هويدي تلك الصفة على الرئيس التركي؟!. ولك عذرك لو اندهشت أو سخرت، لكن هذا ما حدث فعلًا، بل إن هويدي كتب أيضًا إن أردوغان أحد من «أعطوا انطباعًا للإدارة الأمريكية بأن فضاء المنطقة قابل للتشكيل على أي وجه، وبأن الأمة العربية قد استسلمت ورفعت الرايات البيضاء، وأصبحت جاهزة للانصياع لكل ما يفرض عليها من أوضاع ومخططات». كما وصف موالاة تركيا للولايات المتحدة بأنها «ثابتة ولا شبهة فيها» وأنها «تحتفظ مع العالم الإسلامي بعلاقات شكلية». ولأنك قد تشكك في هذا الموجز، سأحكي لك «الحدوتة» بقدر من التفصيل. كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في واشنطن، حين نشرت جريدة «يني شفق» التركية، في 30 يناير 2004، أن الرئيس الأمريكي جورج بوش عرض عليه معالم المشروع الأمريكي ل«الشرق الأوسط الكبير». وذكرت الجريدة أن ما عرضه بوش الابن على «أردوغان» يتلخص في قيام تركيا بدور محوري في ذلك المشروع، بأن تتولى الترويج لنموذجها الديمقراطي و«اعتدالها» الديني. وانطلاقًا مما نشرته الجريدة التركية، كتب هويدي مقالًا عنوانه «تسريب أمريكي لمشروع الشرق الأوسط الكبير» نشرته جريدة «الشرق الأوسط» السعودية، في 4 فبراير 2004، أكد فيه أن لديه قرائن وشواهد عدة ترجح صحة الخبر، منها أن فهمي قورو، محرر جريدة «يني شفق» كان ضمن الوفد الصحفي التركي المرافق لأردوغان، وأكد له (لهويدي) في اتصال تليفوني، أنه هو الذي أرسل الخبر إلى جريدته، وأن كل الصحفيين الذين كانوا معه، أحيطوا علمًا بالأمر، وقيل لهم إن الرئيس بوش عرض على أردوغان تفاصيل كثيرة لمشروعه. من القرائن التي ذكرها «هويدي»، أيضًا، أن «الإدارة الأمريكية لديها اقتناع قوي بأن النموذج التركي هو الأصلح للتطبيق في العالم الإسلامي، ومن ثم الأجدر بالتعميم لأسباب ثلاثة، أولها أنه ملتزم بالعلمانية التي تهمش دور الدين إلى حد كبير، بل وتعارض أي دور للدين في الحياة العامة، وهو مطلب تُلح عليه واشنطن خصوصًا بعد 11 سبتمبر»، والسبب الثاني أن «تركيا تعتبر نفسها جزءًا من الغرب، وموالاتها للولايات المتحدة ثابتة ولا شبهة فيها، بينما تحتفظ مع العالم الإسلامي بعلاقات شكلية»، أما السبب الثالث فهو أن «تركيا لها علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل، الأمر الذي يلقى ترحيبًا وتشجيعًا كبيرين من جانب واشنطن ولاتحاد الأوروبي». لهذه الاعتبارات، فإن تركيا - كما كتب هويدي - تُعدّ من وجهة النظر الأمريكية، الحليف النموذجي المرشح للعب الدور الرائد في مشروعها ليس فقط لترويض المنطقة، ولكن أيضًا لتقديم نموذج الإسلام الذي تتوافر فيه شروط الاعتدال، كما تراها واشنطن. أما أهم قرائن «هويدي» الدالة على صحة الخبر فكان أن «ما سمي مشروع الشرق الأوسط الكبير» ينسجم مع هدفين رئيسيين للولايات المتحدة في المرحلة الراهنة، أولهما تحديد جبهة الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، وثانيهما التقدم إلى الأمام صوب تحقيق حلم الإمبراطورية الأمريكية، وصياغة ما سُمِّي ب«القرن الأمريكي». ربما كانت العلاقات «الإيرانية - التركية» المتوترة، قبل وبعد 2004، هي التي دفعت «هويدي» إلى التقاط أو اصطياد خبر جريدة «يني شفق» وإلى سرد وعرض القرائن التي دلل بها على صحته. وربما كان تغير العلاقات «الإيرانية - التركية» منذ منتصف 2009 هي سبب تغير موقف «هويدي» كليًا من «أردوغان»، ثم جلوسه معه في 6 ديسمبر 2009، بعد أسابيع من زيارة الأخير إلى «إيران» وعشية سفره إلى الولاياتالمتحدة. ربما.. وربما.. وربما.. لكن المؤكد هو أن «أردوغان» ليس أكثر من «صناعة» أمريكية و«الفرس» الذي راهن عليه الأمريكيون (وما زالوا) لتحقيق حلم «القرن الأمريكي» أو «الإمبراطورية الأمريكية»، الذي كان مشروع «الشر» أو «الشرق الأوسط الكبير» إحدى الخطوات في الطريق إليه. وربما يلعب دوره توم كروز أو توم هانكس، بعد عشرة أو عشرين سنة، في فيلم أمريكي عنوانه American Handmade أي صناعة يدوية أمريكية!. لمزيد من مقالات ماجد حبته