ما زلت فى حضرة الأستاذ الكبير أحمد بهاء الدين، وقد رويت طرفًا من حوار دار بينه وبينى بحضور زميلى يحيى قلاش، وفيه ميز الأستاذ بين كُتاب الأعمدة وأعمدة الكتاب، وكان بعض الحوار متصلًا بالحملة المسعورة منزوعة الأدب والكياسة، التى شنها عليه من كان من كُتاب الأعمدة ويرأس مجلس إدارة دار التحرير، ومعها تحرير الجمهورية، وفى سياق الكلام ذكر الأستاذ بهاء أنه خلال مقابلة له مع الرئيس حسنى مبارك جاء ذكر ذلك الصحفي، وإذا بمبارك يشيد به لأنه أولًا يستطيع كتابة عشرة أعمدة فى اليوم، وبذلك يتفوق على هيكل الذى بالكاد كان يكتب مقالًا أسبوعيًا، ولأنه ثانيًا عند كل عركة - أى معركة - يقلع وينزل -أى يخلع ملابسه - وينزل للمعترك، وكان الرئيس يقصد التصدى لمن يهاجمونه أو نظامه. وفوجئت بالأستاذ بهاء يسألنى مباشرة: عندك فكرة عن يعنى إيه يقلع وينزل؟!، وضحك ضحكته الصافية!.. ومن فورى رددت: أكيد حضرتك تسألنى باعتبارى رد سجون!. واستطردت مؤصلًا حكاية القلعان والنزول، وقلت إن بلطجية الأحياء الشعبية - وهم فئة مختلفة عن فئة الفتوات التى أرخت لها الروايات - عندما كانوا يستأجرون للخناقات فإن الواحد منهم يبادر أولًا بتجرع ربع أو نصف لتر كحول سبرتو أحمر.. ومباشرة يفقد اتزانه، ليبدأ وهو يترنح فى خلع ملابسه قطعة قطعة، ثم إلى أقرب فتحة مجارى ينزل ليخرج ملطخًا مما فيها.. ويسارع بكسر زجاجة السبرتو الفارغة لتبقى رقبتها الحادة فى يده، ويبادر بجرح أحد ساعديه - أعلى الذراع - لينزل دمه أولًا، ويقف فى أوسع مساحة بالشارع ملوحًا برقبة الزجاجة المكسورة الملوثة بدمه وبالفضلات، مؤكدًا أن أى دم آخر ليس أغلى من دمه الذى أساله بيده، وعندها يقف الناس فى نصف دائرة بعيدًا عنه، وكلما اقترب منهم هرولوا للخلف، لأن أحدًا لن يقترب من جسد ملوث بالفضلات الآدمية، ومن يد تحمل سلاحًا مروعًا.. ومن جمجمة طار عقلها بفعل السبرتو الأحمر! وكان الأستاذ بهاء ينصت مندهشًا من المعنى الذى قصده الرئيس. ويبدو والله أعلم أن فلسفة القلعان والنزول لها أوجه متعددة، يمثل البلطجى إياه الوجه الصريح الواضح منها، وبدون أى رتوش، ثم تتصاعد الوجوه إلى أن نصل للوجه «الشيك» أو المتأنق!، وهو ما أزعم أننى صادفته مؤخرًا، لأننى فوجئت منذ أيام قليلة بكاتب عمود فى جريدة الشرق الأوسط - يقلع وينزل ساحة الهجوم على جمال عبد الناصر! وبعدما قرأت ما كتبه ربطت من فورى بينه وبين بعض كُتاب الأعمدة فى صحف مصرية ما زالوا رغم مرور ما يقرب من نصف قرن على رحيل ناصر، وما يقرب من سبعة عقود على قيام ثورة يوليو قالعين ونازلين فى العركة.. ثم ربطت ذلك بأننا فى الصيف الذى يحلو لبعض أهل المال والشياكة والأناقة أن يقضوا جزءًا منه فى لندن عاصمة بعض العرب، وخاصة من مجتمعات النفط فى الصيف. وقد تكون القعدات اللندنية اللذيذة المريحة رتبت بالصدفة لقاءات، كان موضوعها ومجال الاتفاق فيها هو استمرار التهجم على جمال عبدالناصر.. وربما كان أحد الأدلة المرجحة أن أحد كُتاب الأعمدة فى صحيفة مصرية خاصة كتب عن كُتاب الأعمدة المفضلين له، وكان فى مقدمتهم ذلك الكاتب، والذى سبق وتصديت له وأوقفت تهجمه على زعيم مصرى عظيم، عندما كنا حاضرين سويًا أحد المؤتمرات السنوية التى تعقدها جريدة إماراتية مشهورة!.. وكان منهم أيضًا كاتبان مصريان يجمع بينهما قاسم مشترك، هو العداء ليوليو وعبدالناصر! الأمر الذى يعنى أن الحلف الذى يستخدم سلاح الكراهية، انتقامًا من مصر العروبة والتحرر والعزة لم ينفض، وأن هناك أجنحة من بعض الأسر العربية الحاكمة ما زالت تريد الانتقام باغتيال شخصية ناصر، وتلويث مسيرته، لأنهم لا يريدونه مجددًا شخصًا كان أم فكرة ومنهجًا! وبصدق فإننى ممن يذهبون إلى استحالة تكرار التجارب التاريخية، وأن الأولى بالعناية هو الدروس المستفادة من كل تجربة ليتم تعظيم الإيجابيات وتلافى السلبيات، وأنه لا أحد معصومًا من الخطأ ولا من النقد.. غير أن الشرط اللازم لأى نقد هو أن يكون نزيهًا مجردًا من ذاتية الكراهية والانتقام واغتيال شخصية من يتم نقده.. ولكن وعلى رأى عمنا محمود السعدني - رحمة الله عليه - سبحانك ربى مغير الأحوال، لأنه ثبت أن النقد بشقيه العينى والكاش ينسف النقد الموضوعي، ولله فى خلقه من البلطجية شئون. لمزيد من مقالات ◀ أحمد الجمال