فى عنقى دين كبير للكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين، لأنه كان سببا أساسيا فى محاولاتى المستمرة كى أكون موضوعيا ومنصفا قدر الإمكان. لا أنسى هذا الدين أبدا، وتذكرته بقوة مساء السبت الماضى خلال احتفالية مؤسسة روزاليوسف بمرور 90 عاما على مولده «1927 1996». الذين أثروا فى حياتى من كبار الكتاب كثيرون وفى مقدمتهم بالطبع الكاتب الفذ والمعجز محمد حسنين هيكل وسلامة أحمد سلامة وآخرون. كتب ومقالات بهاء مدرسة مفتوحة لكل من يريد أن يتعلم الموضوعية والدقة والتوثيق والعلم، وقبل ذلك وبعده التواضع والإنسانية وعفة النفس. بهاء ألف 37 كتابا أشهرها بالطبع «أيام لها تاريخ» و«إسرائيليات» و«تحطمت الأسطورة عند الظهر» و«محاوراتى مع السادات»، و«المثقفون والسلطة فى العالم العربى» والكتابان الأخيران من تقديم هيكل. لكن هناك كتابا فى غاية الأهمية أيضا أصدرته «الشروق» بعنوان «شرعية السلطة فى العالم العربى»، ومنعته معظم البلدان العربية، كما قال المهندس إبراهيم المعلم فى ندوة يوم السبت الماضى. وبجانب الكتب هناك آلاف المقالات، خصوصا مقال الصفحة الأخيرة بجريدة الأهرام أعلى الصفحة يمين فى المكان الذى يكتب فيه الآن الشاعر فاروق جويدة، وكان بجواره على اليسار عمود أنيس منصور فى المكان الذى يكتب فيه الآن الأستاذ صلاح منتصر. عبر مقالات بهاء تعلمنا الجملة المباشرة الواضحة الخالية من العواطف والمديح الزائف والرطانة والاسترسال. قرأنا العبارة الرشيقة التى تربط السياسة بالاقتصاد بالأدب والثقافة والتاريخ. كان الراحل يكتب فى كل الموضوعات بنفس الحماسة والتركيز من فساد التعليم والمحليات إلى الجمال والفن، إلى أعقد القضايا الدولية، وأتذكر أنه ظل مهموما بقضية المهاجرين الروس إلى إسرائيل. أما مرضه فكان أحد أسبابه الرئيسية التفكك الذى أصاب العالم العربى بعد غزو العراق للكويت فى أغسطس 1990. قبل قراءة بهاء بعمق، كنت أحد أتباع «المدرسة الجنحورية فى الكتابة والتفكير». كنت أفكر بعواطفى وليس بعقلى، كنت أزعق وأصرخ كثيرا فى كل مناقشاتى مع الزملاء والأصدقاء. كنت أرى الدنيا من منظور سياسى واحد ضيق، يعتقد أنه يملك الصواب المطلق والآخرون على خطأ مطلق. قراءة بهاء تتيح لأى عاقل أن يرى أى قضية فى الدنيا من منظور شامل، يأخذ كل العوامل والظروف فى الاعتبار. وبالتالى فإن هذه المقالات كانت أفضل وصفة علاجية لعلاج «المرض الحنجورى فى الكتابة». فى ندوة روزاليوسف مساء السبت الماضى، تحدث كثيرون خصوصا مصطفى الفقى ومحمد سلماوى وحلمى التونى ومفيد فوزى وإبراهيم المعلم ومحمد أبوالغار عن أحمد بهاء الدين. لكن أهم ما لفت نظرى إضافة لكتاباته هى علاقته بالسلطة. أكثر من متحدث أشار إلى أن بهاء كان حريصا على أن تكون هناك مسافة بينه وبين أى سلطة مؤمنا بمقولة «من اقترب احترق». كان معارضا فى أوقات كثيرة للحكومة، لكنه لم يعارض الدولة، ولم يدخل فى صدام شديد مع أحد لأنه كان عفيف اللسان، رقيق ورشيق العبارة. تزوج بهاء من سيدة مسيحية، وكان يفرق كثيرا بين الصهيونية واليهودية. كان فى حد ذاته مشروعا فكريا كبيرا. كان متسامحا إلى أقصى الحدود، وحتى عندما تطاول عليه أحد الصحفيين المقربين من السلطة بأن اسم جده شحاتة!، أصر فى اليوم التالى على أن يوقع عموده فى الأهرام باسم «أحمد بهاء الدين شحاتة»! ويقال إنه شكا لمبارك من تدنى بعض الأقلام المحسوبة عليه، فقال له : «معلش يا بهاء.. نحتاج هؤلاء.. دى ناس بتقلع وتنزل!». ما أحوجنا هذه الأيام إلى كتاب كثيرين من نوعية أحمد بهاء الدين. تنطبق عليهم مقولة عبدالرحمن الكواكبى: «ما بال الزمان يضن علينا برجال ينبهون الناس، ويرفعون الالتباس، ويفكرون بحزم، ويعملون بعزم، ولا ينفكون حتى ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون». رحم الله بهاء، وأمد فى عمر ما تبقى من كتابنا المحترمين.