اشتهرت إيران منذ القدم بشعرائها الذين انتشرت أشعارهم وقصائدهم الرائعة، فكانت مدرسة الشعر القديم والمعاصر حيث امتلأت هذه الأرض بأروع القصائد، وعرفت لغة الشعر منذ الميلاد الأول لها، حيث الشعراء:«حافظ الشيرازى» الذى تعلق اسمه بإيران وتنقل فى ديوانه بين حقول الغزل والحب والجمال،«سعدى الشيرازى» الذى زرع من قصائده بستاناً رائعاً من الورد يملأ عبيره الأفق، ثم نجد بحور الحكمة تفيض من ديوان الحكيم «عمر الخيام» الشاعر والعالم الفلكى الذى اشتهر برباعياته المعروفة، «أبو القاسم الفردوسي» أبرز شعراء الفارسية فى نظم الملاحم الشعرية الحماسية.. بل انه يُعتبر من ألمع شعراء الملاحم البطولية والأساطير التراثية والتاريخية على المستوى العالمي. وتعد ملحمته «الشهنامة»، لا نظير لها فى التاريخ، والتى تتتبع أخبار تاريخ ملوك إيران على مدى 3874 سنة فى ستين ألف بيت من الشعر الموزون المقفى، والذى أمضى الفردوسى سنوات شبابه فىانجازها لتصبح أعظم ملحمة شعرية فى تاريخ الفارسية. حيث تتضمن القصص والأساطير الوطنية وتسجيلاً للأحداث التاريخية التى عصفت بإيران منذ بداية الحضارة الإيرانية القديمة، وحتى اضمحلال السلالة الساسانية، وتضم الثقافة القديمة والخالدة للشعب الإيرانى خلال قرون سحيقة وعهود طويلة، كما تتضمن العديد من الموضوعات والجوانب الأخلاقية والدينية والاجتماعية المليئة بالعبر والدروس التربوية لبنى الإنسان وهو ما يُضاعف من قيمتها المعنوية. موهبة إلهية تميّز الفردوسى بنبوغ وموهبة سمّاها الكثيرون بأنها موهبة إلهية ونسج الخيال الشعري.. بل ويُشار إليه كآية كبرى فى فنه، ولقب عبر العصور بأسماء وألقاب كثيرة منها «هوميروس إيران» و«أبو الشعر الفارسي» و«محيى ثقافة إيران ولغتها» و«الفنان الأغر» و«شاعر الحرية» و«أعظم شعراء الدنيا»، ولكن ثمة هالة من الإبهام والأسطورة تلف حياة هذا الشاعر- كما هو شأن العظماء - ولكن وفق رواية العروضى السمرقندي، وهى أقدم المصادر التاريخية وأقربها لحياة الفردوسى انه ولد فى أواخر العقد الثالث من القرن الرابع، وينحدر من عائلة من طبقة الدهاقين أو الملاكين من قرية «باج» فى نواحى طبران فى طوس حيث كان ذا أملاك وضِياع وأموال. وطبقة الدهاقين علاوة على قدرتها الاقتصادية فهى أيضا حاملة وحافظة للسنن والرسوم والتقاليد الإيرانية الأصيلة وناقلة للأخبار والروايات والقصص والأساطير الإيرانية القديمة، وتتمتع بثقافة خاصة وفكر أصيل. أمضى الفردوسى سنوات شبابه فى تتبع أخبار تاريخ ملوك إيران وسيرهم المتناثرة فى المصادر المكتوبة ولاسيما الكتاب البهلوى «خوتاى نامك» أو«خداى نامه» والذى ترجمه ابن المقفع إلى العربية فى القرن الثانى الهجرى تحت عنوان «تاريخ الرسل والملوك» وكان مصدراً أساسيا للمؤرخين المسلمين فيما بعد كالطبرى والدينورى والبيرونى والثعالبي...كما قرأ الفردوسى الشهنامات النثرية السابقة لأبو المؤيد البلخي، أبوعلى البلخي، أبو منصوري. ومن ناحية أخرى اطلع على الروايات الشفهية للحكايات والحوادث الحماسية الإيرانية القديمة والتى كانت تدور على ألسنة الرواة والنقالين ولاسيما طبقة الدهاقين والأشراف والسدنة، وإلى جانب إلمامه بالثقافة الفارسية وتاريخها كان متبحرا فى الأدب العربى والثقافة الإسلامية والفلسفة والبلاغة والكلام.. ولعلّ أشعاره تثبت ذلك ولقبه «الحكيم» يؤكد هذه الحقيقة. كتاب الملوك أما«الشهنامة» لغويا فتعنى كتاب الملوك أو كتاب التيجان، والحق أنها تاج الكتب، فهى تعرض لخمسين ملكا يمتدون على أربع سلاسل من الحكومات. وتحوى مقدمة تشمل أبياتا فى توحيد صفات الجمال والجلال الإلهيين ومدحا للعقل وخلق العالم والبشر والشمس والقمر، ومدحا للنبى «صلى الله عليه و سلم» وآله وأصحابه الكرام. ثم ترتب ترتيبا تاريخيا: تذكر الأسرة فتبدأ بأول ملوكها تبين تاريخه، وما كان فى عهده من الحادثات ثم تذكر الملك الثانى الخ.. وبهذا تخالف الملاحم الأخرى، وتستمر القصص فيها 3874 سنة. وقد ذاعت هذه الملحمة فى شتى أنحاء العالم الإسلامى شرقا وغربا، وترجمت إلى أكثر لغات شعوبه ولاسيما العربية والتركية. وأعادت هيئة قصور الثقافة طباعتها فى جزءين والتى قام بترجمتها إلى العربية الفتح بن على البندارى فى القرن السابع الهجري، وقارنها بالأصل الفارسى وأكمل ترجمتها وصححها وعلّق عليها وقدّم لها د.عبد الوهاب عزام فى عشرينيات القرن الماضى. و«للشهنامة» عند الفرس مكانة عظيمة فهى سجل تاريخهم، وأناشيد مجدهم، وديوان لغتهم، وتتجلى قيمتها فى أنها جمعت التاريخ الفارسى المبعثر بين الصدور والسطور فى ملحمة واحدة تتمتع بجميع العناصر الحماسية العالمية، ولها دورها العظيم فى حفظ اللغة والتراث الفارسى من الضياع والتشتت، فقد جاءت فى عصر كان يشهد حركة واسعة تهدد وجود اللغة الفارسية وإحلال لغات بديلة عنها كالعربية والتركية. الأمر الذى حفظ اللغة الفارسية وتعابيرها الفصيحة وكنوز الحكمة والبلاغة والكلام. كما أسهمت فى خلق نهضة أدبية انعكست فى نظم العشرات من الملاحم والقصص البطولية فيما بعد، بل تعدى الأمر ذلك لينعكس على الأدب العرفانى والصوفى الذى يعد من أبرز أغراض الشعر الفارسي. ورغم إنه يعد أعظم كتاب وضع فى الفارسية، قام الفردوسى بإنجازه فى أكثر من ثلاثين عاما إلا انه كان يشكو من جحود الناس، الذين لم يقابلوا جهده بما يستحقه، ومع مرور السنوات والأجيال، صارت «الشهنامة» كتاب الفرس القومي، وأحد الكتب الأساسية المنتمية إلى مزيج من الحضارتين العربية والفارسية، واعتُبرت عملاً يضاهى الملاحم الإغريقية والهندية، ليبقى اسم «الفردوسى» لامعاً متألقاً فى تاريخ الأدب والثقافة فى إيران.