العلاقة بين لغتنا الفصيحة والعاميات قضية شديدة الحساسية فى الساحة الثقافية العربية بل ولعلها تقترب من المحظور لاكتساب الفصحى قداسة لارتباطها بلغة القرآن الكريم، وبالتالى غالبا ما يتم تجاهلها أو تأجيلها إلى حين.. لكن هذه الثنائية المحيرة تفرض نفسها بشدة عندما يباغتنا التناقض بين ما تكنه الأنفس من احترام للغة القرآن وبين واقع حافل بكلمات غير مفهومة على الألسنة وفى أجهزة الإعلام الرسمية وغير الرسمية وتكرار شكوى أبناء انتحرت اللغة على شفاههم من صعوبة تعلمها ومطاردة أصحاب لغة الضاد بلافتات متاجر تحمل أسماء أجنبية مكتوبة بالحروف العربية أو بحروف لغتها الأصلية!! ..ورغم أن قضية الفصحى والعامية تم تناولها من زوايا متعددة فى عقود سابقة إلا أن د. إكرامى فتحى يطرحها فى كتابه الجديد «نجيب محفوظ وتشكيلات الحوار الروائي» من منظور يستحق التوقف أمامه وأمام القضية ككل.. فرغم أن قضية الفصحى والعامية لم تعد هى الشاغل الأول فى الساحة الثقافية بعد أن أصبح للشعر العامى جمهوره، وظهور عدد لا بأس به من الروايات والقصص بالعامية واللهجات العربية المحلية، وابتكار الشباب للغة ثالثة بإضافة حروف عربية للكلمة الأجنبية لتصبح كلمة جديدة فى معجمهم العربي«!!»، إلا أن الخلاف بين دعاة العامية والفصحى لم تقل حدته أو ينتهى تماما .. فدعاةُ الفصحى يتهمون دعاة العامية بالدعوة إلى التغريب والانسلاخ عن الجذور والانحدار بلغة الحوار وإضعافها وعدم الارتقاء بالمستوى الثقافى السائد، فيما يتهم المدافعون عن العامية دعاة الفصحى بالتخلّف والتقوقع والجمود والأحادية بدعوى أن تصوير الواقع والوصول للقارئ يستوجب أن يُنطق الناس فى الكتب بما تجرى به ألسنتهم فى أحاديث الشوارع..وحيث إنه من الشائع أن نجيب محفوظ ممن يكتبون الحوار الروائى باللغة الفصحي، تتضح أهمية الكتاب الذى خصصه الباحث لدراسة عنصر الحوار ولغته فى رواياته فى ستينيات القرن الماضي، بمنهج تحليلى شبه إحصائي.فنتائج دراسة د.إكرامى لا تكشف فقط أن نجيب محفوظ، الذى كرر مرارا وتكرارا انه من دعاة استخدام فصحى الحوار، استخدمت شخصياته تعبيرات عامية، بل أيضا يلفت انتباه القارئ لكيفية توظيف محفوظ للفصحى والعامية لتفى بالغرض الفنى والفكرى للعمل بما لا يخل بطبيعة الشخصية، الأمر الذى يفتح الطريق لتناول ثنائية الفصحى والعامية من منظور مختلف.. فى البداية يعرض الباحث لأهمية الحوار فى العمل الروائى لتحديد ملامح الشخصية وكشف الجوانب الخفية فيها واستكمال عناصر العمل الفني، موضحا أن الحوار احتل مكانة مهمة عبر التراث السردى وانه ازداد أهمية مع الرواية الحديثة التى قامت على مساحة الحوار وارتفاع صوت الشخصية مقابل خفوت صوت السارد.ثم يطرح مجموعة الأسئلة التى يريد الوقوف على إجاباتها من خلال تحليله التطبيقى لبنية الحوار فى روايات اللص والكلاب «61» والسمان والخريف «62» والطريق «64» والشحاذ«65» وثرثرة فوق النيل «66» وميرامار «67» متسائلا عن دوافع نجيب محفوظ لاستخدام فصحى الحوار وإذا ما كانت هذه القناعة قومية أم لها أسباب فنية غير معلنة، وعن مظاهر الفصحى التى استخدمها محفوظ متمثلة فى كتابة المرادف الفصيح للحوار، وإذا ما كانت العامية توارت تماما من لغة الحوار فى روايات نجيب محفوظ أم أن لها مساحات تجلت عبرها، وطبيعة هذا الظهور ومستوياته..وبدراسة الباحث للحوار فى الروايات الست يشير لحضور للعامية ضمن الحوار المحفوظى الروائى وأن توافر مستويى الفصحى والعامية لا يعنى انفصال كل منهما عن الآخر، بل إن التفاعل بينهما خلق ديناميكية إبداعية تجلت فى عمق دلالة الجملة وما تحمله من خبرات الحياة فى التعبير عن قضايا فكرية عميقة، مشيرا إلى أن الحوار فى روايات نجيب محفوظ لم يكن مجرد حديث بين شخصين أو أكثر مما يمكن سماعه فى الحياة اليومية بل كان عنصرا حيويا لا ينفصم عن الحالة السردية وأنه أحيانا اتسم بالرمزية ليلائم طبيعة التجربة الروائية.. وللحديث بقية .. لمزيد من مقالات سناء صليحة