فى عام 1990 أضاف يوسف شاهين ضلعا ثالثا إلى أضلاع سيرته الذاتية التى بدأها برائعته «اسكندرية ليه» 1978.. و«حدوتة مصرية» 1982..ثم «إسكندريه كمان وكمان» فى عام1990..ليختتمها بفيلمه «إسكندرية نيويورك» عام 2004. وقتها كنت قد أمضيت عامين من العمل الصحفى بجريدة «الأهرام».. وعلمت بعرض الفيلم الكبير بسينما «مترو» بموقعها التاريخى بشارع طلعت حرب .. إذن فهناك رائعة جديدة لشاهين عبقرى السينما المصرى العالمى كما أن هذه الرائعة تعرض فى أعظم وأروع دور العرض فى ذلك الوقت وهى سينما مترو بألقها وجمالها الخلاب ..وهما عنصرا جذب ووهج شديدان لى كأحد عشاق السينما. أشرطة متواصلة من الذكريات مرت بخاطرى مع الذكرى العاشرة لرحيل «جو»، وهو اللقب الشهير لعملاق السينما المصرية والعالمية يوسف شاهين.. تتداخل فيها ذكريات حضورى أعماله:« إسكندرية ليه» و«حدوتة مصرية» بسينما مترو..«واليوم السادس» و«المهاجر»، قبيل منع عرضه بسينما كريم بشارع عماد الدين وغيرها من روائع شاهين المهمة. يقف شاهين بقوة فى منطقة كبار مخرجى السينما العالمية إلى جوار فيلينى وكيروساوا وفاسبندر وجودار وغيرهم من العمالقة السينمائيين القادرين على صناعة أعمال كبرى مليئة بدوائر لاتنتهى من الإبداع والقدرة على إدهاش المشاهد. كنز ثمين وتعد أفلام يوسف شاهين بالنسبة لقطاع كبير من الجمهور بمثابة لغز يريدون إدراكه وبالنسبة للكثير على الصعيد الآخر بمنزلة كنز ثمين لأهم روائع تاريخ السينما المصرية.. ولد شاهين فى عام 1926 فى الإسكندرية، وهو من عائلة لبنانية انتقلت للعيش فى مصر وبعد دراسته الابتدائية والثانوية فى الإسكندرية انتقل للدراسة فى كاليفورنيا بالولايات المتحدةالأمريكية لدراسة صناعة الأفلام والفنون المسرحية. وتنقسم مسيرة شاهين الفنية إلى مراحل عدة بداية من الخمسينيات التى شهدت إخراجه أفلاما تتناول روايات بسيطة تحتوى على مقدمة ووسط ونهاية، وقد طوعها لرؤيته الإخراجية الممتلئة بالإثارة والحيوية مثل فيلم المهرج الكبير يليها أفلام لا تمحى من ذاكرة السينما مثل صراع فى الوادى وصراع فى الميناء . لكن النقطة التى يجب الوقوف عندها كثيرا يجب أن تكون فيلمه المهم «باب الحديد» الذى تدور قصته حول «قناوي» (الذى قام بأداء دوره يوسف شاهين) بائع الجرائد غير المتزن عقليا الذى يجن بحب «هنومة» (هند رستم) بائعة «الكازوزة» التى تشفق عليه لكنها تنوى الزواج بآخر، وعندما تبدأ هنومة فى الاستعداد للزواج يخطط لقتلها. الفيلم مرحلة جديدة بكل المقاييس لشاهين حيث تم طرحه كأول فيلم عربى للتأهل لجائزة الأوسكار وتم تصنيفه فى المركز الرابع ضمن أفضل مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية فى استفتاء النقاد. وعن تمثيل يوسف شاهين المبدع فى الفيلم نرى أنه ممثل من الطراز الأول فقد أبدع بلغة عينيه وحركات جسده فى تصوير شغفه بحبه لهنومة. وكان فيلم «باب الحديد» بمثابة نقلة فنية فى مساره الفنى من خلال مثلث حب متفجر بين ثلاثة أفراد يعملون ويقطنون فى محور السكك الحديدية المزدحم بالمدينة. .وعبر هذا العالم الثرى قدم لنا شاهين قاهرة الخمسينيات من منظور الطبقات الدنيا الكادحة فى عالم السكك الحديدية ..«الشيالين» والباعة الجائلين ولمحات مهمة من الطبقة الوسطي. وقدكان مقررًا أن يحصل شاهين على جائزة «أفضل ممثل» من «مهرجان برلين السينمائي» عن دوره فى هذا الفيلم الذى يعد نموذجا حيّا ومتطورا للواقعية الجديدة فى السينما. البداية وكان شاهين قد أخرج فيلمه الأول «بابا أمين « عام 1950 الذى يدور فى أجواء درامية غير تقليدية حيث إن بطله حسين رياض يؤدى دور رجل ميت.. وتلاه بفيلم «ابن النيل» (1951)، الذى دعى إلى مهرجان كان السينمائي. وعلى مدى العقود الثلاثة التالية، كان يُخرج فى المتوسط أكثر من فيلم فى السنة من الأفلام الغنائية والكوميدية إلى الواقعية. شاهين هو من اكتشف عمر الشريف فى مقهى بالقاهرة، وأعطاه أول دور له فى فيلم «صراع فى الوادي» (1953)، ليقوم بدور مهندس مزرعة ريفية يكافح ظلم المالك الإقطاعي. أما فيلمه «جميلة بو حيرد» (1958)، فقد ارتكز إلى كتاب جاك فيرج الذى صدر بعد فترة قصيرة من تعذيب هذه المناضلة الجزائرية ومحاكمتها على أيدى الفرنسيين . ثم أتى فيلم «صلاح الدين» (1963)، حيث قدم كفاح الناصر صلاح الدين وتوحيده العرب فى القرن الثانى عشر الميلادى للدفاع عن القدس ضد الحملة الصليبية. ويأتى الفيلم الكبير كرمز للمد القومى العربى فى الستينيات مقدما صلاح الدين أيضًا نموذجًا للسلام والتسامح الديني. الاختيار أما فيلمه المهم «الاختيار» (1970) فيتناول لغز جريمة قتل كغطاء درامى للأحداث التى يطرح فى جوهرها تعاظم الانقسامات الفكرية فى مصر فى أعقاب نكسة يونيو 67 المفجعة وهى الهزيمة التى ألقى فيلمه «العصفور» (1973) سببها على الفساد فى المؤسسة السياسية. ومنعت حكومة السادات عرض الفيلم لمدة سنتين. لقد اتخذت قدرة شاهين على الربط بين الشخصى والسياسى خطوة أخرى إلى الأمام بتقديمه سيرته الذاتية من خلال رباعية الإسكندرية، حيث اتخذ هذه التسمية لأفلامه الأربعة لأن الإسكندرية هى المدينة التى ولد فيها. يروى فيلم «إسكندرية ليه» (1978) أحلام الصبى يحيى فى أن يصبح مخرجًا، فى فترة الحرب العالمية الثانيه بينما كان يحيى يحلم بالسفر للولايات المتحدة لتعلم الإخراج . وبعد أن أجرى شاهين جراحة القلب المفتوح المُضنية، عكف على تحويل هذه التجربة إلى فيلم سينمائى على شكل محاكمة حياة يحيى فى فيلمه «حدوتة مصرية» (1982)، وهو أكثر أفلامه شبها بالنمط الفلليني..فقد اتهم ضميره بخيانة مثالية شبابه، واستعرض علاقاته ومعالم مساره الفنى على خلفية التحولات التى شهدتها مصر بعد الحرب. أما فيلمه «إسكندرية كمان وكمان» (1990)، فهو خيال موسيقى استعراضى تدخل خلاله مجمل صناعة السينما المصرية فى إضراب عن الطعام من أجل الديمقراطية. إلا أن عام 1976يجب أن نتوقف عنده كثيرا ..ففيه صدر فيلمه «عودة الابن الضال» الذى يشير إلى أن نكسة 1967، بوصفها ناتجة عن استغلال رجال عبد الناصر ومن حوله لأحلامه مما جعلها تنتهى بالهزيمة. يوسف شاهين من أبرز المخرجين المصريين، ومن أهمهم على الإطلاق. وتعليمه ونشأته كونا لديه رؤية عما يدور فى الواقع وشعورا قويا جعله فى كثير من أفلامه يتنبأ بما سيحدث فى المستقبل مثل فيلمه الأخير «هى فوضى «الذى تنبأ فيه بحدوث الثورة المصرية. وفى عام 2008، رحل شاهين مخلفا وراءه إرثا سينمائيا لايزال يثير دوائر واسعة من التساؤلات والدهشة حول كل هذا القدر من الإبداع المتجدد والنبوءات التى تحملها أعماله وتحققت على أرض الواقع بعد أعوام من رحيله.