تمر فى هذه الأيام ذكرى ثورة 23 يوليو، وهى فرصة لتقويم تلك التجربة التاريخية، بكل إنجازاتها وإخفاقاتها، ليس هناك تجربة فوق الحساب أو النقد، شريطة الموضوعية، لكن للأسف، تبتعد الآراء أحيانا عن ساحة التقويم إلى براح التجريح والإنكار، بحسب الغرض والهوي، أغلب القذائف تصيب رمز الثورة الأكبر جمال عبد الناصر، فى صورة حملات إدانة عاصفة، حقا وباطلا، بدأت عقب وفاته، منذ نحو نصف قرن، ومازالت متقدة بالأحقاد، يشارك فيها أفراد وجماعات وقوى إقليمية ودولية، أول الطابور جماعة الإخوان الذين حاولوا اغتياله حيا، وإهانته ميتا، ألم يقل مرسي، فى أول خطاباته، عبارته الشهيرة:الستينيات وما أدراك ما الستينيات، غامزا قناة رجل مازال طيفه يؤرقهم. عادل ثابت المقرب من الملك فاروق، ملأ كتابه (عبدالناصر والذين غدروا به) بالدعاية السوداء ضد الرجل، وكذلك فعل آخرون، إنها إحدى صور الغدر المستمر من الجماعة وبقايا الإقطاعيين والمنبطحين للغرب وغيرهم، مدفوعين بمآرب تستهدف مبادئ ولحظات بعينها فى حياة الأمة، منعا لتكرارها، عبر تلويث سمعة عبد الناصر بشتى الوسائل، وهو بين يدى ربه، على نحو يذكر بما فعله ملك بريطانيا شارل الثاني، استخرج جثة عدوه كرومويل من قبره، وشنقها لمدة أسبوع!. يتخذ الهجوم على عبد الناصر ونظام يوليو (انتهى عمليا فى مايو 1971) أشكالا متعددة، تسونامى مقالات وكتب وأفلام.. ترسخ فكرة: إن الثورة أنهت عصر الملكية السعيد، وبدأت زمن انحطاط، محملة الرجل كل سوءات عصره والعصور اللاحقة، إنها حالة غسيل مخ للأجيال، تتواصل بلا كلل. وبداعى الإنصاف، فإن ناصر، أحببته أو كرهته، حمل مشروعا حقيقيا كى يجعل وطنه دولة مستقلة مرهوبة الجانب زعيمة لأمتها وقارتها، قاد ثورة الضباط الأحرار، من أجل حرية الوطن وكرامة المواطن، فخاض معارك فى الداخل والخارج، يرى الاقتصادى عبدالجليل العمرى أن الاقتصاد المصرى قبل الثورة، مثل (بقرة) ترعى بأرض مصر، لكن ضروعها تحلب فى الخارج. عندما اندلعت الثورة كان المصريون حفاة عراة، لايجدون ما يستر عوراتهم، يعشش بينهم الجهل والمرض والفقر، حارب ناصر كل هذا ونجح نجاحا مذهلا، بنزاهة وإخلاص، مات مدينا وأخذ قرضا من الحكومة ليزوج ابنته، ولم يعرف من مباهج الحياة سوى الخبز والجبن الأبيض، واعتنى بالفقراء والطبقة الوسطي، بالإصلاح الزراعى ونشر المدارس والجامعات والمصانع فى المحروسة. بيد أن غياب الديمقراطية وسقف الحريات المنخفض ونكسة يونيو أخطاء جسيمة وبقعة سوداء فى ثوب الحكم الناصرى الناصع، وهذا درس ينبغى تلافى تكراره فى كل عصر، مثلما علينا ألا نغفل الظرف التاريخي، يرجع صلاح عيسي, فى (مثقفون وعسكر), أسباب اتهام عبد الناصر بالديكتاتورية إلى أن حجم زعامته كان يمثل تحديا لكل النظام الاستعمارى الاستغلالي، فاحتاج إلى قوة مركزية، تمكِّنه من الصدام مع النظام الإمبريالى والاستغلال الطبقي، فأمم قناة السويس وأنشأ السد العالى وانتهج سياسات القومية العربية وعدم الانحياز ودعم حركات التحرر فى العالم الثالث، خاصة عربيا وإفريقيا، وجعل القاهرة إحدى أهم عواصم صنع القرار الدولي، لاعجب أن تتكالب القوى الاستعمارية وإسرائيل ضده فى حربي1956 و1967. وحتى مع الهزيمة رفض الشعب تنحيه؛ فأعاد بناء الجيش وتجهيزه لمعركة العبور التى وضع خططها المبدئية، بحسب روايات كبار القادة، كالفريق محمد فوزى فى (حرب أكتوبر 1973، دراسة ودروس)، لإدراكه أن مصير مصر ومصالحها ترتبط بنتيجة المواجهة مع إسرائيل والغرب، الاستسلام فيها لا يعنى سقوط النظام فحسب، بل خسارة استقلال القرار السياسي، والعودة إلى أيام الوصاية، أى تصبح البلاد مجرد تابع هامشى للقوى العظمي، كما كانت أيام الملكية وصارت خلال عصر مبارك. عبر 52 عاما على صفحة الحياة، و16عاما فى الحكم، استطاع الزعيم اجتراح ما يشبه المعجزات، صنع سيرة، وخط تجربة تستحق التوقف أمامها بالاحترام اللائق، بعيدا عن شطط الجهل وعتب المحبين، وصفه الشاعر الجواهرى بأنه:عظيم المجد والأخطاء، رأى فيه بعضهم زعيما قوميا عالميا، ورآه آخرون حضورا كارثيا على مصر والمنطقة. تكرار تجربة عبد الناصر نوع من الفشل الزاعق، لكن يجوز استبقاء أساساتها الصالحة للبناء، كالعدالة الاجتماعية؛ خمسون عاما مرت دون تلك الأساسات فهل أصبح حالنا أفضل؟!. لقد أدار عبدالناصر أحوال البلاد والعباد، فكان الأكثر سعيا لإقامة مائلهم وإقالتهم من عثراتهم، والأوفر حظا فى محبتهم والأشد إيلاما للقلوب برحيله، لأجل ذلك عاش فى الصدور وميادين الثورات، برغم تسونامى الغدر والأحقاد!. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن