لم أر جمال عبدالناصر ولم أعش عصره، لكن ما سمعته من أبى وأمى كان كافيا كى أعرف قدره أحب الرجل شعبه، فبادله حبا وتوحدا وإرادة، عملا وكفاحا، تمر السنون ولا يزال بريقه متوهجا خالدا فى قلوب وعقول الملايين، تجربة فريدة من نوعها، هى ابنة زمانها وظروفها، تستحق التقويم بكل انتصاراتها وانكساراتها، بعيدا عن شطط الجهل وعتب المحبين. ولج «ابن البوسطجى» أبواب التاريخ العالية، قاد ثورة من أجل حرية الوطن واستقلاله، وكرامة المواطن، خاض معارك رهيبة فى الداخل والخارج، اعتبره البعض «جورج واشنطن» العربي، ومن القاهرة اتسع المد التحررى إلى بلدان العالم الثالث، صارت إحدى أكبر عواصم الدنيا نفوذا وتأثيرا، ثم انتشل الغالبية العظمى «الكادحة» من المصريين، من عبودية الفقر والجهل والمرض، بالتعليم والصحة والخدمات فى الريف والحضر، والمساواة بين الجميع.. باختصار حقق «العدالة الاجتماعية»، لذلك رفعت الجموع صور الزعيم بميدان التحرير فى 25 يناير، مطالبة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، فى زمنه لم يكن بند «لائق اجتماعيا أو غير لائق» موجودا لشغل الوظائف المرموقة. كانت ثورة يوليو 1952 سباقة فى إعادة توزيع الثروة الوطنية، بتأميم قناة السويس، ثم تأميم الشركات الكبرى المملوكة لمصريين، بعد تقاعس كثير منهم عن الاستثمار ومحاولتهم تسريب أموالهم إلى الخارج- بغض النظر عن رأينا أو تقويمنا لهذه الخطوة الآن- وأصدرت قانون الإصلاح الزراعي، فأحدثت أضخم حراك اجتماعى بتاريخ الكنانة، لمصلحة الفلاحين والعمال والمعدمين، فى عملية تفاضل وتكامل، قلصت طبقة كبار الملاك وأوجدت طبقة وسطى متسعة، شكلت عماد النهوض والازدهار، تدنت معدلات البطالة بعد إنشاء الصروح الصناعية وبالثورة الزراعية بعقب بناء السد العالي، وتضاعف الدخل القومى فى عشر سنوات فقط 1955-1965. وتوازى توزيع الثروة مع توسيع قاعدة السلطة السياسية، بتخصيص 50% من مقاعد البرلمان للعمال والفلاحين، ومنحت المرأة حقوقا غير مسبوقة، وهى خطوات أكدت الرابط بين الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية السياسية الوليدة. إن ارتباط ناصر بتراب الوطن وتاريخه صاغ بريق صورته الجماهيرية، وشكل التزامه بالدفاع عن قضاياه وسيلة توصيل الصورة، إلى شعوب الأمة العربية فى كل مكان، حتى صار رمزا لأمانى الجماهير. المفارقة الكبرى أن الجماهير التى كان عبدالناصر ملهما لها، كانت مستبعدة فعليا عن المشاركة السياسية بمعناها الحقيقى، أى أن الحكم كان «فوقيا» أحاديا وغير مسيس. وتلك قمة المأساة التاريخية لثورة يوليو، أنها فجرت أحلام الجماهير وطاقاتهم وعجزت عن تعبئة وتنظيم تلك مشاركتهم، لأن مفتاح النصر الحقيقى فى أى معركة هو المشاركة الشعبية، لأجل ذلك عندما تكالبت على الثورة القوى المعادية داخليا وخارجيا، حدثت النكسة والانكشاف والتراجع بقدر ما كان التقدم والإنجاز. فى كتابه «مثقفون وعسكر»، يؤكد صلاح عيسى أنه لم يكن ديكتاتورا، وأن زعامته كانت تحديا للنظام الاستعمارى الاستغلالي..وأنه احتاج إلى قوة مركزية كبيرة، تمكِّنه من الصدام مع النظام الإمبريالى والاستغلال الطبقى. فى خلفية المشهد الممتد بطول حياته، عنصر بالغ الخطورة يسقطه كارهوه، يتمثل فى تكالب الدول الاستعمارية عليه، فقد ظل الرجل العدو الأعظم للصهيونية العالمية، والناصر الأكبر للقضية الفلسطينية.. خرج ناصر من الدنيا بلا أموال ولا ضياع ولا مخصصات، لم يحسب عليه ولا لذويه مزايا استغلوا فيها منصبه، كان مشهد جنازته الأضخم فى تاريخ البشرية «استفتاء قاطعا» على شعبية رجل أحبهم وأحبوه، كان كما وصفه الشاعر الجواهرى «عظيم المجد.. عظيم الأخطاء»، لم يقل مشهد الوداع الرهيب، عن مشهد أشد غرابة قبله بثلاث سنوات عام 1967، يتمسك فيه شعب ببقاء زعيمه المهزوم، خرجت الملايين رافضة تنحيه، وتطالبه بالبقاء وتحمل المسئولية التاريخية وتحدى الهزيمة، رضخ لرغبات الجماهير، وتقبل مظاهرات الشباب فى العام التالي، وبدأ إعادة بناء الجيش، عقب النكسة مباشرة، فاستطاع العبور فى أكتوبر 73. عبدالناصر تجربة ملك جماهير عاشتها، جماهير لم تكن عمياء، ولا فاقدة لوعيها وهى تسير معه، لقد وجدت فى حركته أمانيها الضائعة، وفى كلماته تعبيرا عن رغباتها المضغوطة، ولم تكن العلاقة بين الاثنين علاقة الأمر والطاعة، وإنما علاقة حوار حر، لأن مجاله عقول الناس وقلوبهم، وحيث لا سلطان لقوة على أعماق البشر إلا ما تشعر به وتقتنع، ولا شك فى أن أساسات مشروع ناصر مازالت صالحة للبناء عليها وأن الاحتفاء بذكرى ميلاده اليوم ليست تنقيبا عن زمن انتهي، إنما وعى بحركة التاريخ واندياحها فى الراهن، وبحث عن مستقبل يتشكل فى رحم الماضى والحاضر. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن