منذ طفولته، لم يظن "ابن ساعى البريد" أى شىء فى نفسه، لم يتطلع للزعامة، لكن دون أن يقصد وقع المحظور، ولج الرجل أبواب التاريخ العالية، أبواب ماكرة غادرة أحيانا ودافئة حانية أحيانا أخرى.. قاد عبدالناصر ثورة الضباط الأحرار، من أجل حرية الوطن واستقلاله، وكرامة المواطن وصلاح أحواله، خاض غمار معارك على جبهات الداخل والخارج رأى فيه البعض زعيما قوميا عالميا، ورآه آخرون حضورا كارثيا على مصر ومنطقتها، لكنه على أية حال رجل صنع سيرة وخط تجربة تستحق التوقف عندها بالاحترام اللائق، بعيدا عن شطط الجهل وعتب المحبين، إدراكا لأن أى تجربة سياسية لها أخطاؤها التى لا مفر منها، مهما كبرت . نشأ عبدالناصر فى محضن الألم وعلى عينه، بث فيه ذلك روحا صلبة مثابرة ورجولة مبكرة ثائرة فى إهاب صبى، جعلته يرفض كل ضروب الظلم التى واجهته، سواء على المستوى العام أو الخاص، فالحس الثورى متأصل فى وجدانه منذ بواكير وعيه، ليس غريبا أن يقود جمال مظاهرات ضد النظام، وهو طالب بمدرسة رأس التين الثانوية، وأن يكون عجزه عن "دفع المصروفات الدراسية" ورحيله عن كلية الحقوق إلى الكلية الحربية "حلمه الأول"- التحق بها فى ظروف استثنائية- سببا مباشرا بعد ذلك فى إصراره على جعل التعليم مجانا لكل أبناء الشعب وطبقاته، من الإبتدائية إلى الجامعة.. من هنا يتضح أن شخصية جمال عبدالناصر، «قنديل زيت» بتعبير نزار قبانى، تنطوي على وجدان يحترق بقلقه، يستفيء بطموح لا يهدأ.. ذكاء حاد لايعرف حدودا، شخصية توقعك فى "ورطة حقيقية" عندما تقوّم أعمالها..ترى الصراع المجيد بينه وبين نوازع الضعف وبواعث الاستسلام، فتهولك انتصاراته وتأسى لهزائمه، وأنت لا تملك فى الحالين سوى التساؤل: كيف انتصر، وكل شىء حوله يدعو إلى الهزيمة؟ ولماذا انهزم، وكل شىء يدل على أنه جمع عزمه على الانتصار ؟!. كثيرة هى الإنجازات التى تحققت فى عصر عبدالناصر، من تحرير الوطن من ربقة الاستعمار إلى انتشال "الجماهير الغفيرة" من الطبقات الكادحة، أو الغالبية العظمى من الشعب المصرى، من عبودية الفقر والجهل والمرض، بالتعليم والصحة والخدمات فى الريف والحضر، والمساواة بين الجميع..إلخ. إنها تحولات عميقة كميا وكيفيا، لا تزال آثارها باقية إلى اليوم، واختصارا، تحقيق قدر واسع من "العدالة الاجتماعية"، نعم العدالة الاجتماعية التى أعادت ثورة 25 يناير التأكيد عليها، وخرجت الجموع إلى ميدان التحرير مطالبة بها وهى ترفع صور الزعيم، فى رمزية لها دلالتها. كانت ثورة يوليو 1952 سباقة، فى رج البناء الاجتماعى رجا عنيفا، قوض دعائم المجتمع القديم، فى أثناء محاولتها إرساء مجتمع جديد، وأحدثت تحولات كمية وكيفية هائلة فى فترة زمنية قصيرة فى عمر الشعوب.. ظهرت، منذ الأسابيع الأولى، البذور الجنينية للمشروع الاجتماعى، وأصدرت قانونين مهمين: قانون الإصلاح الزراعى وقانون إلغاء الألقاب المدنية "ألقاب: باشا، بيك، .." ، ولأن "الأرض" هى عماد الثروة فى المحروسة ، ظلت المفتاح لأى تغيير اجتماعى حقيقى، فقد مثلت قوانين الاصلاح الزراعى بمقوماتها الثلاثة –تحديد الملكية وتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر واستصلاح الأراضى، عاملا حاسما فى إحداث أضخم حراك اجتماعى فى تاريخ مصر على الإطلاق، لمصلحة الفلاحين والعمال والمعدمين، فى عملية تفاضل وتكامل جديدة، قلصت طبقة كبار الملاك وأوجدت طبقة وسطى متسعة، شكلت عماد النهوض المصرى ذاك الزمان، وتدنت معدلات البطالة بين الشباب على نحو غير مسبوق.. وبالتوازى مع هذا، أعيد توزيع الثروة الوطنية بخطوتين، الأولى مرحلة نقل الجزء الأكبر الذى يمتلكه الأجانب إلى مصر، وذروتها "تأميم قناة السويس"، وثانيتها مرحلة تأميم الشركات الكبرى المملوكة لمصريين، بعد تقاعس كثير منهم عن الاستثمار ومحاولتهم تسريب أموالهم إلى الخارج- وبغض النظر عن رأينا أو تقويمنا لهذه الخطوة الآن- ليقوم نظام اقتصادى أقرب إلى رأسمالية الدولة، وارتبط مع توزيع الثروة توسيع قاعدة السلطة السياسية، ليجرى النص دستوريا وعمليا على تخصيص 50% من مقاعد البرلمان للعمال والفلاحين، وإشراكهم فى مجالس إدارات الشركات التى يعملون بها، كما منحت المرأة حقوقا مثلت تحولا جذريا فى الأسرة المصرية والبناء الاجتماعى، وكان ذلك كله خطوة عملاقة فى تأكيد الرابط العضوى بين الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية السياسية الوليدة ودليلا قاطعا على قدرة الشعب على النمو الاقتصادى السريع بخطط خمسية ناجحة، ضاعفت الدخل القومى فى عشر سنوات فقط 1955-1965. صحيح أن أكثر تلك المنجزات توارت الآن أو اختفت فى طى النسيان، أو صار ديكورا شكليا فارغا من المضمون مثل "مجانية التعليم" فى عصر الدروس الخصوصية.. المفارقة الكبرى أن ثورة يوليو التى انحازت للأغلبية المحرومة، ضد الأقلية التى كانت تستغل وتسيطر قبل الثورة، يظل من العسير القول إن الثورة نجحت فى تحقيق كل أهدافها أو حتى غالبيتها، لكن يبقى جانب التغيير فى البناء الاجتماعى ومحاولة "إرساء العدالة الاجتماعية" هى أنصع وأبرز إنجازاتها وأكثرها حضورا لدى الرأى العام وفى قاعات الدرس، المشكلة الكبرى أن هذه الجماهير الغفيرة التى كان جمال عبدالناصر ملهما لها، كانت مستبعدة فعليا عن المشاركة السياسية بمعناها الحقيقى، أى أن الحكم كان "فوقيا" أحاديا وغير مسيس.. هكذا كانت قمة المأساة التاريخية لثورة يوليو أنها فجرت أحلام الجماهير وطاقاتهم وعجزت عن تعبئة وتنظيم تلك المشاركة الجماهيرية، لان مفتاح النصر الحقيقى فى اى مواجهة هو المشاركة الشعبية، وحينما تكالبت علي الثورة القوى المعادية فى الداخل والخارج، حدثت النكسة والانكشاف والتراجع بقدر ما كان التقدم والانجاز، وهو كما وصفه الشاعر العراقى الكبير الجواهرى «عظيم المجد .. والأخطاء». ما نود تأكيده هنا أن عبدالناصر عمل فى خدمة شعبه بنزاهة وشرف وإخلاص، بشكل محموم كمن يشق طريقا أثناء السير عليه، ليظل موقعه، برغم كل العيوب، كامنا فى قلب الوجدان الجمعى المصرى - العربى، لأنه كرس ليله ونهاره طوال حياته، لرفعة وطن والتحليق بأحلام شعبه،من خلال الممارسة الشاقة، مبحرا فى بحر عاصف هائج وعالم مضطرب معاد، ليرسى رايته بعطاء بالغ الخصوصية والتميز . عبدالناصر فى النهاية تجربة ملك جماهير واسعة عاشتها معه، وأعطته ما لم تعطه لأحد قبله. وهى جماهير لم تكن عمياء، ولا فاقدة لوعيها وهى تسير معه، لقد وجدت فى حركته أمانيها الضائعة، وفى كلماته تعبيرا عن رغباتها المضغوطة، ولم تكن العلاقة بين الاثنين علاقة الأمر والطاعة، وإنما كانت علاقة حوار حر، لأن مجاله عقول الناس وقلوبهم، وحيث لا سلطان لقوة على أعماق البشر إلا ما تشعر به وتقتنع.. وكان التصويت الانتخابى على "الزعيم" ومجمل أعماله جليا، يوم وفاته، والجماهير الغفيرة المحتشدة لوداعه بالملايين، بمصر وبلاد العرب، فى مشهد جنازته الأضخم فى تاريخ البشرية. قال "بسو" صديق "أينشتاين" ذات يوم: "إذا كانت فكرتك جميلة كالزهرة، فلابد أن تنتشر لها رائحة".