غريبةٌ هذه الدنيا، لا تخلو أبدًا من المصادفات القدَرية. فى ليلة الخامس من يونيو الماضي؛ ذكرى الهزيمة المؤلمة فى حرب 67 يموت الإذاعى الكبير أحمد سعيد، الذى ارتبط اسمه بإذاعة البيانات العسكرية الكاذبة وقتها، كأن القدر أراد أن يكتفى له بخمسين عاما من الألم؛ خمسين ذكرى يتجدد خلالها الحديث كل عام عمّن سمّوه «رائد مدرسة التضليل فى الإعلام»، وقبل الذكرى الواحدة والخمسين بساعات؛ رحل. ولكن؛ أكان الرجل حقًّا كذلك؟!. أتلك هى كل المسألة؟!. أكان حقًّا مجرد إعلامى مضلِّل؟!. ............................................................................... أعود إلى الوراء الآن 7 سنوات كاملة، ففى تمام الساعة السابعة من مساء يوم 21 مارس 2011، كنت أقف أمام باب شقة الإذاعى الراحل أحمد سعيد مؤسس إذاعة (صوت العرب) ورئيسها الأسبق، فى حى الزمالك. وقتها ذهبت لإجراء الحوار معه بناء على طلبه، فقد كان لديه ما يقوله حول ثورة 25 يناير، لكننى ذهبت للقاء الرجل للمرة الأولى وفى ذهنى مواجهة واحدة حول «مدرسة التضليل» وإذاعة البيانات الكاذبة حول أعداد الطائرات الإسرائيلية التى أسقطتها قواتنا فى حرب 67، فى حين أن طائراتنا نحن قد تم تدميرها على الأرض فى مرابضها، دون أن تشتبك أصلا أو تحلق بعيدا عن الأرض شبرًا!. كل هذا التضليل، كيف؟! ولماذا؟!.كان ذلك فى نظرى وقتها هو السؤال الكبير. لكن ما جرى خلال الحوار كان مختلفا، يومها وجدت أمامى رجلا ثمانينيا آنذاك لكنه أكثر حماسا وحيوية من الشباب فى الميادين أنفسهم، والأهم أنه بالطبع أكثر فهما وعمقا، وفى ظل حديثه التحليلى الشامل حول وقائع الأحداث فى ثورة يناير، وكلامه المفعم بالأمل حول المستقبل وقتها؛ وجدتنى أقرر أن أنسى أو أتناسى المواجهة التى فى رأسى، فلم أطرح السؤال حول يونيو 67 أصلًا. كان هذا بالطبع تصرفا خاطئا، من الناحية الصحفية، لكننى فى الحقيقة كنت قد تحولت خلال الحوار الذى امتد إلى 3 ساعات ونشر بعدها يوم 22 أبريل 2011 فى ملحق الجمعة فى «الأهرام»- من حالة صحفى يجرى مواجهة إلى حالة تلميذ فى حضرة «مُعلم» يقدم خبرة السنين فى السياسة والتاريخ والإعلام، وكم هو الفارق بين الحالتين، حتى أننى قلت له تعقيبا على تحليله العميق لأحداث الثورة وقتها ومستقبلها: «لا شك أن حديثك يثير الإحباط داخلى»، فردّ وقد ارتدى ثوب «الأستاذ» قائلا: «حالة الإحباط اللى عندك دى تقلقنى، احنا كده فل الفل، بس نكمل». وسط هذه الأجواء، لم أشأ وقتها أن أتطرق خلال الحوار إلى اللحظة التاريخية الماضية التى أعرف أنها ستثير مكامن الألم وتحرك مواضع الأحزان لدى «الأستاذ». لكن الصحافة لا تعرف ذلك!. كيف ألتقى «أحمد سعيد» دون أن أسأله عن «بيانات 5 يونيو»؟!. أعرف ذلك، لذا فقد عاودت الاتصال به هاتفيا بعدها، طارحا السؤال، عن سر إذاعته بيانات إسقاط الطائرات الإسرائيلية خلافًا للحقيقة بهذا الشكل، وتعللتُ بأنه قد طُلب منى ذلك لاستكمال الحوار. أزعج السؤال «الأستاذ» دون شك، وآلمه كما توقعت، لكننى ألححت، وعندئذ ردّ بشيء من غضب قائلا: «اسأل المجلس العسكري!»، (الذى كان يحكم البلاد بعد ثورة يناير). سألته عن مقصده ففسّر: «لو ماكنتش أذعت البيانات دى كان تم إعدامى «قلت له: «كيف؟»، فراح يشرح. قال الأستاذ أحمد سعيد: الإعلام فى حالة الحرب له نظام وقواعد خاصة تختلف عن مثيلاتها فى حالة السلم، لأن الدولة كلها بما فيها أجهزة الإعلام توضع فى حالة الحرب تحت تصرف القوات المسلحة، بهدف تحقيق الانتصار أو تقليل حجم الخسائر قدر الإمكان فى حالة الهزيمة. وبشكل قانونى بحت، فالقانون رقم 58 لسنة 37 والتعديلات التى طرأت عليه فى المادة 78 فقرة (أ) ينص على عقوبة الإعدام لكل من تدخل لزعزعة إخلاص القوات المسلحة وإضعاف روحها فى حالة الحرب، وكان الإعلاميون مشمولين بهذه القواعد بالطبع. وأضاف الإذاعى الكبير الراحل وقتها: بالنسبة لما حدث يوم 5 يونيو67، كانت العلاقة بين القوات المسلحة والإذاعة هى علاقة (آمرة) كأننا جند فى المعركة، حيث يتم إصدار بيانات تُملى على الإعلامى ويلتزم بإذاعتها، وتنفيذ أى تعليمات حتى لو كانت مخالفة للواقع، وإذا لم يتم الالتزام بالتنفيذ فإن العقوبة هى الإعدام. ولكن لا بد من الإشارة إلى أننا توقفنا عن إذاعة أى بيانات بدءًا من يوم 7 يونيو. وتساءل أحمد سعيد بعد ذلك مستنكرًا».. وليه بتتهموا الإذاعة بس؟!. ارجعوا لكل الجرائد وشوفوا كانت بتهلل ازاى للانتصار يوم 6 يونيو، بس هم ما قدروش وقتها على جمال عبدالناصر فقالوا أحمد سعيد هو السبب»!. هذا ما قاله الأستاذ يومها، لكن العلاقة بين الإعلام والنظام فى «دولة يوليو» بشكل عام لا يمكن اختزالها فى واقعة بيانات 5 يونيو وحدها، إذ إن فيها الكثير من التفاصيل والخبايا والهوامش، التى لا يذكرها التاريخ، لكن أحمد سعيد ذكرها فى حواره معى فى شقته. قال إن فكرة إنشاء إذاعة «صوت العرب» كانت فى الأساس مقترحا لجهاز المخابرات العامة وليس للإذاعة المصرية، حيث تقرر إنشاء أول جهاز للمخابرات فى مصر فى يناير 1953، وتم تكليف البكباشى زكريا محيى الدين عضو مجلس قيادة الثورة آنذاك بالإشراف على الجهاز، وكان طبيعيا أن تحظى المنطقة العربية بالاهتمام، ضمن الدوائر الثلاث الشهيرة؛ العربية والإفريقية والإسلامية، وأشرف على الدائرة العربية اليوزباشى فتحى الديب، وكان قريبا منى فى السن، فتآلفنا وتفاهمنا سريعا، ووضع خطة عمل فى المنطقة العربية، اشتملت على فكرة إنشاء جهاز إذاعة يعطى العرب فكرة عن الفكر الثورى فى مصر. وأضاف أنه كان من حق هذه الإذاعة مناقشة سياسات الحكومات العربية وانتقادها بما فى ذلك حكومة الثورة فى مصر، وكان هذا سلاحنا الذى استخدمناه فى انتقاد السياسة المصرية كثيرًا، لكنه لم يكن انتقادًا عنيفًا، لأننا «طلعنا أو نزلنا» كنا جزءا من النظام، لكننا مثلا امتنعنا عن مهاجمة الرئيس محمد نجيب فى أزمة 54، كما امتنعنا عن مهاجمة «الإخوان» بعد محاولة اغتيال جمال عبدالناصر، وقاومنا الضغوط علينا فى الحالتين، فتم رفع الأمر لعبدالناصر، وجاء تعليقه مؤيدًا لموقفنا، حيث قال: «مفيش داعى إن صوت العرب ينشر غسيلنا الوسخ!»، وجاء هذا فى مصلحتنا مما أتاح لنا مهاجمة سياسات الحكومة، لكن فى حدود عدم الاصطدام بالمبادئ العامة. وبملامح ابتسامة «خبث طفولى» لطيفة، قال الإذاعى الكبير الراحل - رحمه الله- متذكرًا: فى إحدى السنوات خلال شهر رمضان، قررت عمل برنامج إذاعى رمضانى عادى جدا، وكان من عادات المصريين أن يفتحوا «الراديو» فى وقت سحورهم، لذلك اخترت توقيت إذاعته ليلا فى نفس الموعد الذى كنت أعرف أن عبدالناصر يتناول فيه طعام السحور، واخترت موضوعات الحلقات لتكون مثلا عن عدل عمر بن الخطاب، والحريات فى الإسلام وهكذا، (ضحك الأستاذ ثم واصل حديثه)، حتى وجدت ذات مرة (الرئيس الراحل) أنور السادات يقول لى إنه كان يتناول فى أحد الأيام طعام السحور مع عبدالناصر، فقال له الزعيم: «افتح الراديو أما نشوف أحمد سعيد حيشتمنا ازاى النهاردة». رد الأستاذ وقتها قائلا للسادات: «ازاى بقى يا فندم؟ أنا أقدر؟! ده برنامج رمضانى عادى». ثم سأل عما إذا كان مطلوبا إيقاف البرنامج، لكن السادات رد عليه: «لا لا.. أنا باحكى لك بس»!. لكن الإذاعى الكبير ذكر أيضّا أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وقف ذات مرة فى مجلس الأمة (البرلمان) وهاجمه بالاسم قائلا: «أحمد سعيد بيذيع حاجات مش عاجبانى»، وهددنى إذا خرجت عن الخط العام والاشتراكية. لكنه أضاف أيضًا: عندما كان يتم التحقيق معنا فى بعض الأحداث فإن تأشيرة عبدالناصر كانت كالتالي: «لا يحاكَم صوت العرب وأحمد سعيد على ما يقولون ولكن يحاكمون على نتائج ما يفعلون»، لذا فقد كنت أقول ما أريد، ثم تقول المخابرات إن كان هذا صحيحا أم خطأً، فإن كان خطأً يحققون معى، أما إذا فعلت شيئا مخالفا للتعليمات وجاءت نتائجه إيجابية فلا بأس، هكذا كان النظام وهو ما حمانا كثيرا، وربما كان ذلك سر نجاحنا، وتميزنا فى تلك الفترة. وأوضح أنه كانت لديه تعليمات قديمة وتُجدد وهى أن هناك خمس قنوات شرعية يتلقى منها توجيهات لا بد من تنفيذها، وهى الرئيس شخصيا بالطبع، وسكرتيره (وكان فى البداية محمد أحمد ثم سامى شرف)، ومدير المخابرات العامة، ووزير الإعلام، ومحمد حسنين هيكل، وكان هيكل هو الوحيد بينهم الذى ليس له منصب رسمى مثل الآخرين، لكنه إذا قال لى إن الرئيس يطلب منك أن تفعل كذا، فلا بد أن أنفذ فورا، بشرط أن يأتى تأكيد بعد ذلك. وأضاف أحمد سعيد: قبل عام 1962كان عبدالناصر لا يصدر قرارا إلا بعد أن يجتمع مع مجموعة معينة من الصحفيين ورجال الإعلام، ليعرضه عليهم، لكن دون تفاصيل، ويسألهم عن رد الفعل المتوقع، وهذه المجموعة كانت تشملنى إلى جانب أحمد بهاء الدين، وإحسان عبدالقدوس، وأحيانا يوسف إدريس. ولكن بعد عام 62 بدأ عبدالناصر ينفصل عنا للغاية، وبدأت الحواجز تباعد بيننا وبينه. أخيرًا.. هكذا جرت وقائع هذا الحوار قبل 7 سنوات، يوم 21 مارس 2011، حين تغيرت أفكارى عن هذا الرجل تماما، الراحل العظيم أحمد سعيد، ويومها عرفت أنه «رائد مدرسة» بالفعل، لكنها مدرسة الإعلام الوطنى الذكى، الذى يسعى إلى استغلال الهامش المتاح من الحرية، إلى أقصى الحدود، وفى أصعب الظروف، مع الحفاظ بالطبع على الثوابت الوطنية، ويومها عرفتُ أيضًا كيف يكون التضليل حقًّا، عبر استمرار تداول أجزاء من الحقيقة دون غيرها سنوات وسنوات، وعلى أساس هذا الأجزاء المخلة تُبنى الآراء والتحليلات، فتصير هذه بدورها حقائق راسخة لا تقبل المناقشة، وإلا صرتَ مذموما مدحورا، أو يجرفك الطوفان؛ طوفان الآراء السائدة والقوالب الجاهزة والتصنيفات السابقة، وسط شعوب اعتادت أن تكرر ولا تفكر؛ تكرر الكلام ذاته والتجارب ذاتها، دون نقد أو تحليل أو مراجعة.