يعد الهجوم الإرهابى الأخير فى «عين سلطان» بتونس قرب الحدود الجزائرية الأسوأ من حيث عدد الضحايا (6 شهداء و3 مصابين) فى سجل الإرهاب ضد «الحرس الوطنى» الذى يمثل قوات شرطة الحدود والأقاليم التابعة لوزارة الداخلية، وذلك ضمن قائمة تشمل ثمانى هجمات على مدى سبع سنوات. كما أنه الأسوأ كهجوم منفرد منذ عملية حافلة الحرس الرئاسى بوسط العاصمة تونس فى 24 نوفمبر 2015. ومع الأخذ فى الاعتبار الهجمات المتفرقة المنسقة التى تمكن التونسيون شعبا وجيشا وقوات أمن من دحرها فى «بن قردان» بالجنوب الشرقى قرب الحدود الليبية مارس 2016، حيث بلغت تكلفة هذا التصدى 12 شهيدا من الجيش والأمن و سبعة من المدنيين، فيما تكبد الإرهابيون المهاجمون 36 قتيلا على الأقل.
وعلى صعيد جغرافيا النشاط الإرهابى بتونس، فإن الهجوم يأتى فى منطقة جبلية حدودية بولاية جندوبة نحو الشمال الغربى. ويقينا فإن الإرهاب يظل إلى الآن عاجزا عن العودة للضرب فى المدن، بما فى ذلك العاصمة أو ضد أهداف سياحية كما بلغ ذروته فى عام 2015 . والمنطقة المستهدفة هذه المرة هى بمثابة امتداد للمعركة الرئيسية الجارية للمجموعات الإرهابية المتحصنة والمحاصرة فى جبال الوسط الغربى على حدود الجزائر. وهى معركة لم تتجاوز مطاردات وملاحقات واختطاف راع وتعذيبه وقتله بين حين وآخر. والمقصود تحديدا مثلث (الشعانبى سلوم سمامة). ويمكن تفسير تركز الهجمات الإرهابية فى غربى تونس وعلى الحدود مع الجزائر على مدى السنوات القليلة الماضية باستثناء محاولة الاستيلاء على مدينة بن قردان بالجنوب الشرقى قرب الحدود الليبية بأن هذه المناطق تتميز بطابعها الجبلى وبغطاء غابات على خلاف الحدود الشرقية الصحراوية المفتوحة مع ليبيا. ويضاف إلى هذا كون أن مناطق الوسط الغربى وتحديدا فى ولايتى القصرين وسيدى بوزيد مفتوحة على قيادات من الإرهابيين الجزائريين بخبرات تعود إلى عقد التسعينيات. ويعتبر المتابعون للملفات الأمنية أن القيادات الميدانية التونسية لتنظيمات الإرهاب فى هذه المنطقة (وبخاصة تنظيم عقبة بن نافع الذى سارع بتبنيه هجوم عين سلطان) تعمل تحت إمرة هؤلاء الجزائريين. وكذلك هناك عامل ثالث يتعلق بنشاط التهريب فى تلك المناطق الجبلية الغابية. لكن الجديد والمفاجئ هذه المرة أن الضربة الإرهابية جاءت فى منطقة لاتتميز بكثافة غطاء الغابات مقارنة بالوسط الغربى لتونس. وكذلك كون أن المسار فى المواجهات تغير من اشتباكات فى الوسط الغربى ناتجة عن مبادرة قوات الجيش والحرس الوطنى مداهمة الإرهابيين وملاحقتهم فى الجبال إلى أخذ الإرهاب المبادرة بمهاجمة قوات الأمن إلى الشمال الغربى. وباستثناء ضعف الأداءالاتصالى الرسمى بشأن هجوم «عين سلطان» وقد جاء فى يوم عطلة أسبوعية (الأحد) والذى ترك وسائل الإعلام تتخبط فى تقدير عدد الضحايا لساعات، فإن المجتمع أدرك بسرعة خطورة الحدث، بل واستقبله بحساسية بالغة، وتغيرت برامج الإعلام المحلى لتتجند طوال اليوم والليل ضد خطر الإرهاب على نحو لم يعرفه التونسيون على مدى أكثر من عامين ونصف العام من جنى آثار النجاحات الأمنية. وثمة وعى بخطورة توقيت الهجوم لأنه يأتى فى بداية موسم سياحى صيفى مع رهان على تجاوز رقم الثمانية ملايين سائح هذا العام واستمرار تعافى القطاع وتحسن عوائده بالعملة الصعبة ومعه مجمل الاقتصاد وموارده. وفى هذا السياق، فإن قرار إلغاء فعاليات المهرجانات الصيفية مساء يوم الهجوم وتأجيلها ومن بينها افتتاح مهرجان الحمامات الدولى الشهير يحتمل قراءة أمنية وقائية إلى جانب مراعاة الحداد على الضحايا. ومفاد التصريح الذى أدلى به وزير الداخلية بالنيابة «غازى الجريبى» عند زيارته لموقع الهجوم فى اليوم ذاته بأن «الحرب على الإرهاب طويلة الأمد تتطلب النفس الطويل وتماسك الجبهة الداخلية» ليس جديدا. فلطالما ردد وزراء داخلية سابقون وحذروا وسط النجاحات فى لجم خطر الإرهاب بأن الحرب لم تضع أوزارها بعد. لكن تحت وقع الصدمة المجتمعية جراء عدد للضحايا هذه المرة على هذا النحو فإن الرسالة اكتسبت وقعا استثنائيا مقارنة بماسبق. وجملة الجريبى عن الحاجة لتماسك الجبهة الداخلية وما سبقها بساعات من بيان لوزارته مخصص للدعوة «للنأى بقوات الأمن عن التجاذبات والصراعات السياسية» يلقى الضوء على جانب آخر فى توقيت هجوم «عين سلطان». فقد ضرب الإرهاب الآن وتونس تجتاز أزمة سياسية تتلخص أبرز أبعادها فى تقوض الحزام السياسى (أحزابا ونقابات) الداعم ليوسف الشاهد وحكومته المسمى ب «وثيقة قرطاج» ومطالبة قيادة حزبه «نداء تونس» مع اتحاد الشغل أكبر الاتحادات النقابية برحيل الرجل والحكومة معا، فيما يخشى أى من أطراف هذا الصراع المفتوح وكذلك رئيس الدولة اللجوء للبرلمان لحسم مصير الحكومة.وهذا بالأساس جراء العجز والشكوك حول ضمان الأغلبية اللازمة لإسقاط الحكومة أو لمنحها الثقة مجددا وما قد يجر إليه هذا الاختبار الحاسم من مزيد تمزقات داخل كل جبهة. فحتى كتلة «النداء» تبدو غير موحدة وهى الثانية فى البرلمان حاليا بعد النهضة الداعمة لاستمرار الشاهد وحكومته. واللافت أن الجدل الذى شهده الإعلام التونسى بعد الهجوم الإرهابى تطرق إلى تحميل رئيسى الجمهورية والحكومة المسئولية عن وضع استمرت فيه تونس بلا وزير داخلية متفرغ لمدة تتجاوز الشهر بعد إقالة الوزير السابق «لطفى براهم» ابن المؤسسة الأمنية والحرس الوطنى وتكليف وزير العدل «الجريبى» بإدارة وزارة بهذه الأهمية، وفى ظروف بالغة الخطورة بالنيابة. ولقد انزلق هذا الجدل فى محطات تليفزيونية وإذاعية مملوكة لرجال أعمال من أصحاب المصالح والنفوذ إلى استثمار سياسى سافر لهجوم «عين سلطان» ومعه جدل غير صحى حول الترويج لأسطورة مفادها أن الوزير و قيادات الداخلية المقالين معه كانوا صمام الأمان ضد خطر الإرهاب وأنهم راحوا ومعهم أمن البلاد ضحية صراع سياسى حزبى حول كراسى الحكم . وفى هذا السياق، تولد على الفور صراع حول منطقين اثنين: «تغليب الوحدة الوطنية» من جانب و«اتهامات بالمسئولية عن زعزعة استقرار المنظومة الأمنية» من جانب آخر. وليس من السهل الحكم بما سينتهى إليه هذا الصراع الذى أججه الهجوم الإرهابى؟ وكذلك إلى أين سيقود تزايد الضغوط لتعيين وزير داخلية جديد والذهاب به إلى برلمان من أجل الثقة؟ ناهيك عن ضغوط تغيير الحكومة بأسرها.