من المفارقات ذات الدلالة أن مصطلح صفقة القرن الذى تتداوله الميديا الآن من خلال رؤى مختلفة وروايات مُتباينة ورد لاول مرة وبالحرف الواحد فى فيلم سينمائى عربى بعنوان عصر القوة وعلى لسان الممثل الكبير الراحل عبد الله غيث وكان المقصود بتلك الصفقة شراء أسلحة من حلف وارسو عبر وسطاء وأسواق سوداء وما قاله الأدهم فى الفيلم الذى قام بدوره عبد الله غيث هو أن أمريكا وروسيا بدأتا تهدئان اللعب والعالم خارج حدودهما هو الذى يشتعل وهناك حروب كلاسيكية وأخرى أهلية قادمة، لهذا سوف تزدهر تجارة السلاح!. والفارق بين صفقة قرن سينمائية صاغها سيناريست من خياله وبين صفقات سياسية واقتصادية صاغها ساسة ودبلوماسيون وجنرالات هو ان صفقة الفيلم أدت إلى مذابح بين عائلتين متنافستين على الثروة والجاه وسالت فيها دماء, وهذه ليست المرة الأولى التى يلتقى فيه خيال السيناريست مع الواقع الحي، ففى فيلم يابانى نال شهرة واسعة وهو بعنوان راشومون تحدث جريمة قتل واغتصاب فى الغابة بحيث يقدم شخص ما على قتل رجل واغتصاب زوجته، ويُروى هذا المشهد من خلال أبطاله، وينتهى الأمر إلى غياب الحقيقة وراء الروايات الاربع المتناقضة، فالمرأة التى تتعرض للاغتصاب تقول شيئا آخر غير الذى قاله زوجها، والشاهد الوحيد للحادثة قال عكس ما انتظرته المحكمة منه، لم نذهب بعيدا عن فقه المقايضات السياسية وصفقات القرون، فالتاريخ يعج عبر مختلف عصوره بمثل هذه المقايضات ومنها المتكافيء وغير المتكافيء والمهزومون فى الحروب يفرض عليهم الأمر الواقع مزيدا من التنازلات بسبب اختلال ميزان القوي، لكن ما من صفقة أو مقايضة استمرت الى الأبد لأن التاريخ بجدليته ومفاجآته لا يمنح بوليصات تأمين حتى لأباطرة. وصفقة القرن كما رشح حتى الآن من العديد من المصادر أصبحت اشبه باللحية، التى يمكن أن تلصق على وجه قديس أو كلوشار متشرد أو فنان أو سجين أو متسول، وتعدد قراءاتها رغم عدم وضع النقاط على حروفها حتى الآن جاء استجابة لاستراتيجيات ونيات مختلفة، وما صرح به أخيرا كوشنر صهر الرئيس ترامب ومستشاره حول هذه الصفقة ليس واضحا بالقدر الكافى فهو مثلا لم يذكر أسماء الدول العربية التى أصرت على حل الدولتين، وبالتحديد حق الفلسطينيين فى دولة مستقلة حدودها الرابع من حزيران 1967، وحين أضاف وسيط الصفقة الذى ينوب عن عرّابها بأنها قد تتم بمعزل عن السلطة الفلسطينية إذا أصرّ الرئيس محمود عباس على موقفه منها باعتبارها صفعة وليست صفقة, قد لا يكون تعبيرا دقيقا عما يدور وراء الكواليس لكن ليس الى حد التناقض الصارخ، فالقمة العربية الأخيرة التى عقدت فى الظهران حملت اسم القدس وهو أمر له دلالاته وإلزاماته أيضا وما قاله الرئيس عبدالفتاح السيسى عن القضية الفلسطينية باعتبارها حقا فى مواجهة القوة يختصر هذه الدراما لأنها بالفعل كذلك، والحق الأعزل لا يتبارز مع القوة، لكنه يمتلك مقومات الاستمرار واجتذاب الرأى العام بمرور الوقت، وهذا ما حدث فى الآونة الأخيرة، فقد تضاعف عدد الأكاديميين والناشطين والمثقفين فى أوروبا والعالم الذين طالبوا بمقاطعة إسرائيل. إن منطق المقايضات فى التاريخ يخضع جملة وتفصيلا للقوة وارتفاع أو انخفاض منسوبها، لهذا فالتفاوض ليس وصفة متكررة فى جميع الحالات، لأن هناك من يتفاوض وهو أعزل حتى من العصا مقابل من يتفاوض وهو يحتفظ بجعبته العسكرية، وما لم ينتبه إليه الكثيرون حول مسلسل المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية هو ازدواجية المفاوض الإسرائيلى لأنه يجلس على مقعدين وليس على مقعد واحد، فهو يفاوض كدولة دون أن يتخلى عن أدبيات الحركة ويوحى للخصم بأنه يفاوض ايضا باعتباره دولة ويجرده من احتياطيات الحركة، وهذا ما عبر عنه بوضوح الجنرال باراك فى مقابلة نشرت فى الجيروزاليم بوست حين قال إن إسرائيل لم تتفاوض مع منظمة التحرير، بل تفاوضت مع كل حرف من هذه الحروف على حدة، وهذا بحد ذاته دليل على احتفاظ المفاوض الإسرائيلى باحتياطية الحركة. ومن أطرف ما كتب فى هذا السياق ما قاله صحفى فرنسى عن المفاوضات بمختلف مراحلها فقد تخيلها كما لو أنها مشهد سينمائي، وقال إن الاسرائيلى يجلس داخل منزل على مقعد مريح بجانب المدفأة والسماء تمطر والجو بارد، بينما يقف الفلسطينى فى العراء خلف النافذة، لهذا فالإسرائيلى ليس فى عجلة من أمره، بينما الفلسطينى هو الذى يتعرض صبره للنفاد. لمزيد من مقالات خيرى منصور