لسيناء تراث هائل من الأغاني والمسلسلات والمقالات والتصريحات الحكومية, وجاء الحادث الأخير ليرفع من الرصيد الكلامي عن سيناء, الذي لا يقابله إلا قليل من الأفعال. حيث ظلت سيناء بعيدة نفسيا وفكريا عن اهتمامات الدولة والمجتمع المدني, رغم تحذيرات بعض الأصوات الجادة من فصل سيناء, والمفارقة الآن أن الهبة الكلامية الباكية علي ما جري في سيناء لم تترجم بدورها إلي أفعال, وستتراجع مع مرور الوقت, وسينساها الجميع إلي أن تتفجر أزمة جديدة أو كارثة تهدد أمننا القومي. الفجوة بين القول والفعل هي احدي سمات الخطاب السياسي, بل هي ممارسة عامة في حياتنا, وفي كل المجالات. خذ مثلا تصريحات الرئيس مرسي وأفعاله, وبيانات المجلس العسكري وسلوكه الفعلي في المرحلة الانتقالية, وكذلك تصريحات الأحزاب وشباب الثورة, ستجد كثيرا منها لا يصدقه العمل في أرض الواقع. إذن الفجوة قائمة بين الكلام والأفعال قبل وبعد الثورة, حتي إنني أعتقد أنها من ضمن مكونات الثقافة والشخصية المصرية. فارتفاع مؤشرات التدين بين المصريين مسلمين ومسيحيين- لا يعكسه السلوك الفعلي للمصريين في مواقع التعليم والعمل والإنتاج بل وفي علاقات الناس في الشارع. وكثرة الحديث عن ثورة يناير والشهداء لا يقابله جهد حقيقي لتجسيد أهداف ومعاني الثورة, حيث انحصرت الثورة في طقوس ومظاهر احتفالية وأعلام لمصر وأغان وأفلام وصور للشهداء علي جدران وسط القاهرة. هناك من يفسر هذه المظاهر بازدواجية الثقافة والسلوك, وكان لأستاذي سيد عويس كتاب مهم عن الازدواجية الثقافية في حياة المصريين لكني لا أتفق مع مقولة الازدواجية, بل نحن بصدد خطاب ينتجه ويمارسه المصريون بما فيهم أنا شخصيا, وهذا الخطاب يجسد حالة مصر وأوضاعها الاجتماعية والسياسية وعلاقتها بمحيطها العربي والدولي في عصر انكسارها وتراجع دورها, والخطاب كما أقصده هو مجمل الممارسة الاجتماعية, وهو في أهم تعريفاته القول والفعل معا. الخلاصة أن الخطاب المصري قبل وبعد ثورة يناير لم يتغير بصفته ممارسة اجتماعية تجمع في هدوء وبدون انفعال أو حرج بين أقوال وتصريحات تتناقض مع أفعال وسلوكيات. والأخطر أن كل أفراد المجتمع يمارسون هذا الخطاب بدرجات مختلفة, وبحسب موقع السلطة التي يحوزها كل منا, فرب الأسرة لديه سلطة, ومدير المصنع, والوزير والرئيس.. الكل يمارس الخطاب من دون شعور بازدواجية, فآليات التبرير جاهزة, والأهم أن مستهلكي الخطاب أو الجمهور المستهدف يتقبل بل ويبرر تلك الازدواجية, ويمارسها بدوره علي صاحب السلطة. فالعمال في مصنع أو الناخبون في دائرة انتخابية يدركون أن ما يستمعون إليه من وعود وتصريحات لن تتحقق, ومع ذلك يتظاهرون بالموافقة والتأييد, ثم يتخذون مواقف معارضة ومتناقضة, فقد لا يصوتون لصالح المرشح أو لا يعملون بالدرجة التي طالبهم بها صاحب المصنع, وهم في ذلك لا يشعرون بالازدواجية بل قد يجدون في تلك الممارسة نوعا من التحايل المشروع أو المقاومة. إذن خطابنا المهزوم كممارسة اجتماعية يتقبل ويشرع الازدواجية ويتداولها في هدوء, وبالتالي لا يمكن تغيير هذا الخطاب أو إصلاحه إلا إذا نجحنا في تغيير الظروف المجتمعية والسياسية والثقافية التي أنتجته وضمنت لسنوات طويلة استمراره, وتداوله علي نطاق واسع. لابد من تغيير علاقات الإنتاج ونمط توزيع الثروة والسلطة, فضلا عن التعليم والثقافة حتي يمكن إصلاح مجمل ممارستنا الاجتماعية التي نطلق عليها تجاوزا خطاب المصريين. والمشكلة الآن أن الإخوان والسلفيين يقدمون الحل الأخلاقي والديني بعد أن أثبتت الممارسة الاجتماعية في الأربعين سنة الأخيرة فشله وتحوله إلي مجرد قشرة ظاهرية لسلوكيات مناقضة ومتوحشة في رأسماليتها وظلمها الاجتماعي. فرغم كل المنع والملاحقات البوليسية تمكن الإخوان والسلفيون من نشر أفكارهم وكلامهم بين الناس, وبرزت مظاهر التدين في كل أرجاء مصر من دون أن يتجسد التدين في سلوك فعلي, سواء بين أصحاب الدعوة من إخوان وسلفيين أو بين المواطنين العاديين. وعندما أجريت انتخابات البرلمان بغرفتيه اختارت الأغلبية الحل الإسلامي من دون أن تعيه حقيقة, لأنها سرعان ما تراجعت عنه نسبيا في انتخابات الرئاسة, وعندما فاز التيار الإسلامي لم يجد ما يقدمه للأغلبية لأن ممثل التيار الإسلامي أصلا لا يؤمن ولا يعمل بشكل حقيقي بما طرحوه من أفكار وشعارات, والأمثلة كثيرة ولن أتوقف عند أسماء بعينها لكن تكفي الإشارة إلي أن الإخوان والسلفيين لم يقدموا للعمل السياسي نموذجا إسلاميا أو أخلاقيا, بل كانوا مثل النخبة السياسية التقليدية يبحثون عن مصالحهم, وأقوالهم غير أفعالهم, وتحالفاتهم ووعودهم متناقضة مع أفكارهم وبرامجهم.