فى شوارع المدينة ومبانيها وأحيائها القوطية التى تعود غالبيتها للعصور الوسطى ليس هناك الكثير من مظاهر الاحتجاجات، ومع ذلك التوتر السياسى المكتوم يمكن الشعور به فى تفاصيل الحياة اليومية. فالأعلام الإسبانية (علامة تأييد البقاء فى إسبانيا) والاعلام الكاتالونية (علامة تأييد انفصال إقليم كاتالونيا) المنتشرة بطول مدينة برشلونة وعرضها تلعب دور البوصلة لتحديد موقف السكان من أزمة استفتاء إقليم كاتالونيا التى قسمت وما زالت تقسم إسبانيا حتى اليوم ودفعتها لأخطر أزمة دستورية سياسية منذ نهاية نظام فرانكو 1975. ورغم السماء الساطعة الزرقة والجو الحار والسائحين فى كل مكان (تستقبل برشلونة نحو 15 مليون سائح فى العام)، يمكن الشعور بالغليان تحت السطح. فالشرطة منتشرة بكثافة حول المبانى الحكومية، والكثير من عناصرها مسلحة وتقف على أهبة الأستعداد. فالهدوء الحالى مؤقت والجميع بانتظار تسوية تنهى الاستقطاب الحاد، لكن البعض يتخوف أيضاً من تصعيد جديد. وتقول أيسدورا، الشابة الإسبانية العشرينية ل«الأهرام»:»الوضع قلق جداً وقابل للإنفجار فى أى وقت. فما حدث حالياً بمثابة هدنة مؤقتة. ليس هناك طرف يريد تقديم تنازلات ترضى الطرف الآخر. وبالتالى ومع أنه ليست هناك مظاهرات أو احتجاجات أو مواجهات مع الشرطة كما كان عليه الأمر قبل أشهر، إلا أن الوضع قلق للغاية وربما كاتالونيا هى أكبر مكان منقسم فى العالم اليوم». وتوضح ايسدورا التى تعمل فى أحد مقاهى وسط المدينة: «الأزمة خلقت أوضاعاً لم نعرفها من قبل. هناك اليوم مشاعر رفض وتخوين بين أبناء العائلة والشارع والحى الواحد. منذ الأزمة، قرر عدد من الأصدقاء من مؤيدى الانفصال عدم الذهاب مجدداً إلى مطعمهم المفضل لأن صاحبه مؤيد للبقاء فى إسبانيا ويرفض استقلال كاتالونيا. العكس أيضا حدث، فمؤيدو البقاء فى إسبانيا ينظرون للراغبين بالاستقلال بكاتالونيا بوصفهم «راديكاليين خونة». رحلة قصيرة فى تاريخ كاتالونيا ربما توضح جذور تلك الأزمة السياسية العميقة. فقد كانت كاتالونيا، الواقعة شمال شرق إسبانيا وعلى الحدود مع فرنسا، جزءا من مملكة أراجون التى تعود إلى القرون الوسطى، لكنها باتت جزءا من الامبراطورية الإسبانية منذ القرن الخامس عشر. لكن العديد من الكاتالونيين اعتبروها دوماً كيانا مستقلا بسبب تاريخها ولغتها وثقافتها. وبالتالى، كانت هناك دوماً حركات استقلالية ترغب فى عودة الإقليم كدولة قائمة بذاتها. ولكن هذه النزعات تراجعت بشكل كبير بعد وفاة فرانكو 1975 وعودة الديمقراطية لإسبانيا. وخلال العقود اللاحقة وحتى مطلع الألفية الجديدة كانت الحركة الانفصالية عن إسبانيا تحظى بدعم نحو 15% فقط من سكان إقليم كاتالونيا البالغ عددهم 7.5 مليون نسمة. لكن خلال الأزمة المالية التى أدخلت الاقتصاد العالمى فى ركود لم ينته كلياً حتى اليوم، تغير المزاج العام فى كاتالونيا. فالحكومة المركزية فى مدريد، بقيادة حزب الشعب اليمينى الذى ينتمى إلى يمين الوسط قامت بفرض إجراءات تقشف صارمة فى جميع أنحاء إسبانيا وانتهجت برنامجا اقتصاديا قام على خفض الانفاق العام وزيادة الضرائب ما أدى إلى زيادة نسبة البطالة فى الإقليم وتراجع مستويات الدخل، وبحلول عام 2012 كانت الحركة الانفصالية فى كاتالونيا تنال دعماَ شعبياَ متزايداَ، حتى بات نحو 50% من سكان الإقليم يؤيدون الاستقلال عن إسبانيا. وفى ضوء ذلك، بدأت الحكومة الإقليمية فى كاتالونيا الضغط من أجل الاستقلال الكامل إلى ان أجرت من جانب واحد فى أكتوبر 2017 استفتاء الاستقلال، ما شكل انتهاكاً للدستور الإسبانى الذى أقر عام 1978 وينص على أن البلاد «غير قابلة للتجزئة». لكن الحركة الانفصالية لم تكن فقط تهديداً للدستور الذى دشن لحقبة الديمقراطية بعد عقود من حكم فرانكو، بل تهديد أيضاً لإسبانيا كدولة قوية. فكاتالونيا، التى يعادل اقتصادها اقتصاد البرتغال، أكثر مناطق إسبانيا ثراء وتساهم بنحو ثلث الاقتصاد الأسبانى. لم تعترف الحكومة المركزية فى مدريد بنتائج استفتاء الاستقلال فى اكتوبر من العام الماضى، وحلت حكومة الإقليم بزعامة كارلوس بوجديمون، المحتجز حالياً فى ألمانيا، وتم إجراء انتخابات جديدة فى الإقليم جاءت أيضا بإئتلاف حزبى يدعم انفصال كاتالونيا عن إسبانيا. ويقول ميجيل هوجو، وهو فنان تشكيلى وأحد داعمى الانفصال عن إسبانيا ل«الأهرام»: «فى رأى المحكمة الدستورية الإسبانية الاستفتاء ونتائجه غير قانونية، لكننى لا أعترف بقرار عدم القانونية. نحن من نضع القوانين ونغيرها. أعتقد ان الخطوات المقبلة للحركة الاستقلالية ان تسعى لتغيير قانونى فى إسبانيا يسمح لنا بالاستقلال بطريقة منظمة وقانونية وسلمية». وربما هذا هو التحدى الأكبر الآن أمام الحركة الانفصالية. فالمزاج الشعبى الداعم للانفصال فى تراجع، فقد انخفض من 50% إلى 40% حالياً عندما لمس سكان الإقليم الآثار الاقتصادية والسياسية والقانونية لمحاولة تنظيم استفتاء للاستقلال دون استيفاء الشروط القانونية والدستورية أولاً من السلطات المركزية فى مدريد. ووسط هذه الأجواء تتصاعد مشاعر الخوف بشكل غير مسبوق، خاصة وسط تقارير غير مؤكدة أن قوة شرطة كاتالونيا، التى كانت تحت سيطرة الحكومة الإقليمية المؤيدة للاستقلال منذ عام 2014، بدأت العمل على تطوير جهاز استخباراتها السرى الخاص ليكون جهاز استخبارات سريا موازيا للدولة الإسبانية. وتنتشر روايات أن مؤيدى الانفصال عن إسبانيا استخدموا ذلك الجهاز السرى للتجسس على كتاب ومثقفين ومحامين وصحفيين وسياسيين وأساتذة جامعات ومنظمات المجتمع المدنى التى تعارض حركة استقلال كاتالونيا عن إسبانيا. هذه التقارير أثارت هلعاً فى الإقليم. فتسييس أجهزة الأمن فى كاتالونيا من شأنه ان يعزز أزمة الثقة البالغة بين السلطات المركزية فى مدريد وبين حكومة الإقليم. ومع أن أجهزة الأمن فى كاتالونيا ترفض التعليق على تقارير إنشاء جهاز استخباراتى سرى، إلا أن التقارير باتت منتشرة من مصادر عدة. ومؤخراً نقلت صحيفة «فاينانشيال تايمز» عن أربعة ضباط فى الشرطة الكاتالونية، فضلاً عن أشخاص مقربين من أجهزة الاستخبارات الإسبانية والحكومة الإسبانية قولهم إنهم يعتقدون أن هناك محاولات لإنشاء وكالة استخبارات كاتالونية لتعزيز نهج الانفصال عن إسبانيا. عمليات التجسس المزعومة لا تقتصر على الشرطة الكاتالونية، فهناك تقارير أن أجهزة الاستخبارات الإسبانية تنشط فى ملاحقة القادة الكاتالونيين الذين فروا إلى الخارج والذين ظلوا فى الإقليم ما يعزز القلق اليومى ويعقد العلاقات المضطربة أصلاً بين مؤيدى ورافضى الانفصال. الأزمة فى كاتالونيا ليست محض أزمة سياسية، بل اجتماعية وثقافية أيضا. فالإقليم منقسم سكانياً بشكل حاد وهذا عكس نفسه على العلاقات الاجتماعية والتعبير الثقافى. ولا عجب ان الكثير من المعارض الفنية تتضمن لوحات وأعمالا نحتية تعالج أزمة الهوية لدى الإقليم. ولا يبدو أن هناك أفقا لحل سياسى قريب. فزعماء الحركة الانفصالية، التى تمثل أقل من نصف سكان كاتالونيا تم إعادة انتخابهم ويسيطرون حالياً على الحكومة الإقليمية التى تسيطر على مجالات مثل الشرطة ونظام التعليم، وتستخدم صلاحياتها للدفع بأجندة الانفصال عن إسبانيا. ليس هناك حالياً احتمالات كبيرة بتصعيد الأزمة لمستويات العنف التى عرفتها فى أكتوبر الماضى، لكن التوتر السياسى والاستقطاب الحاد، الحق أضراراً بالاقتصاد الكاتالونى والاسبانى. وبعد تراجع منطقة اليورو أثر فوز اليمين القومى فى ايطاليا قبل اسابيع، فإن أى انتكاسة فى اسبانيا قد تدفع منطقة اليورو لأزمة كبيرة. كما أن مساعى انفصال إقليم كاتالونيا قد تصبح مثالاً تحتذى به حركات انفصالية فى عدد من الدول الأوروبية وربما لأقاليم أخرى فى إسبانيا مثل إقليم الباسك الذى تصاعدت فيه من جديد دعوات الانفصال، وهذا كله يجعل مصير إسبانيا ومعها الاتحاد الأوروبى مفتوحا على الكثير من الاحتمالات المخيفة. مبنى واحد يحمل تناقضات وانقسامات الإقليم