هدأت الحركة فى المساجد .. وقلت الصفوف .. وأعيدت المصاحف إلى الرفوف .. وبقيت ثلة خفية نقية جعلت حياتها رمضان دائما. مصاحفها لا تعرف الغبار.. لكن ما يثير العجب أن تجد بعض الناس فى رمضان من الصائمين القائمين والمنفقين والمستغفرين والمطيعين لرب العالمين، ثم ما إن ينتهى الشهر تنتكس فطرته ويسوء خلقه فتجده للصلاة ولأعمال الخير تاركاً وللمعاصى مرتكباً وفاعلاً، وعن طاعة الله مبتعداً! علماء الدين يؤكدون أنه ينبغى على المسلم أن يجعل رمضان صفحة جديدة للتوبة والإنابة والمداومة على الطاعة ومراقبة الله فى كل وقت وساعة، امتداداً لما كان عليه فى رمضان من أمور تقربه إلى ربه جل وعلا الذى قال فى محكم كتابه: (وأقم الصلاة طرفى النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) «هود 114». ويطالبون بالاستفادة من دروس الصيام، والمحافظة على الآداب والأخلاق الجميلة، والتواصى بالتسامح والسلام والعفو عمن أخطأ أو ظلم أو قصَّر فى الحقوق والواجبات من البعيد والقريب. وأوضح العلماء أن رب رمضان هو رب شوال وسائر الشهور، وأنه يجب المحافظة على صلاة الجماعة فى المسجد سواء فى رمضان أو غير رمضان، واتباع سنن النبي، صلى الله عليه وسلم، والمحافظة بعد رمضان على ما كنا عليه فى هذا الشهر الكريم من العمل الصالح، والتطوع بصيام السنن المؤكدة بعد انقضاء شهر الصيام. التوعية بالفضائل يقول الدكتور محمد نجيب عوضين، أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، إنه من المؤسف أننا نجد ظاهرة اكتظاظ المساجد فى شهر رمضان بالمصلين وانتشار موائد الطعام وكثرة القربات وصلة الأرحام وفجأة يقل هذا تدريجيا عند فجر آخر يوم من رمضان، وتعود الأمور إلى طبيعتها التى كانت قبل هذا الشهر الكريم، وهذه الظاهرة تحتاج إلى توعية لأن العبادات لها مدلول وهدف إذا لم يتحقق فإن قبولها الكامل من الله عز وجل سيكون محل نظر، فالنبى صلى الله عليه وسلم قال: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) ويقول أيضا: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)، ومثل ذلك فى الحج والزكاة وغير ذلك من العبادات، والعلماء يقولون إن القليل الدائم أفضل عند الله من الكثير المنقطع، وهذا لا يتحقق إلا إذا قام المسلم بتذكير نفسه دائما برقابة الله الدائمة له بعد أن قام بعبادة الصوم فلا يهمل هذا المجهود الذى قام به ويضيعه بهذه السلبية؟ وهو أمر يتسبب فيه النسيان البشرى وتدخل الشيطان دائما بإحباط عمل الإنسان وإبعاده عن التواصل فى عبادة ربه. أفضل العبادات فى سياق متصل، يقول الدكتور مختار مرزوق عبد الرحيم، عميد كلية أصول الدين بأسيوط سابقا، إنه لا ينبغى التهاون أو التقصير فى العبادة، أو العودة إلى المعاصى بعد رمضان، بل على المسلم أن يداوم على هذه الطاعات بالاستمرار فى الذهاب للمسجد وصوم النوافل، والثبات على شرع الله، والاستقامة على دينه، فيعبد الله لأنه يراه فى أى وقت وأى زمان، فالعبادة لله لا ترتبط بأزمنة أو بأمكنة، بل يعلم أن ربّ رمضان هو ربّ بقية الشهور والأيام، قال تعالي: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَك). وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم. وأفضل الصَّلاة بعد الفريضة صلاة الليل». وأضاف: ان من الدروس والعبر التى يجب أن يصطحبها المسلم بعد شهر رمضان أن يداوم على ما كان عليه من الأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة التى كان عليها فى شهر رمضان ومن ذلك ما يلي: دوام مراقبة الله عز وجل فالمسلم الحق الذى صام شهر رمضان وكان يخلو بنفسه وليس معه احد ويستطيع أن يأكل ويشرب لكنه يراقب ربه عز وجل بل إنه يدخل الماء فى فمه فى أثناء الوضوء عدة مرات ومع ذلك يخرج كل قطرة دخلت فى فمه إلى الخارج مراقبة لله عز وجل، هذا العمل العظيم الذى كان يعمله فى شهر رمضان لو انه داوم عليه بعد شهر رمضان لكان من الصالحين. فالمسلم الذى صام شهر رمضان صياما كاملا وصلى صلاة القيام وراجع القرآن الكريم على قدر اجتهاده وما إلى ذلك من الطاعات عليه أن يستمر فى ذلك بعد شهر رمضان لأنه لا يضمن: هل يدرك رمضان الذى يليه؟ كما يجب على المسلم البعد عن المحرمات التى تغضب الله عز وجل فمن صام شهر رمضان كان يمتنع عن اللهو وعن الصخب وعن شهادة الزور وما إلى ذلك متذكرا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى ان يدع طعامه وشرابه) فالمسلم يترك كل هذه الأشياء خشية أن يضيع ثواب صيامه فأولى به بعد ذلك الابتعاد عن كل هذه المنكرات وغيرها بعد شهر رمضان. الثبات على الاستقامة من جانبه، يقول الدكتور عطية لاشين، أستاذ الفقه بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، إياك أن تظن أن الثبات على الاستقامة أحد إنجازاتك الشخصية فإن الله قال لسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم: «وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا». فكيف أنت ؟! حين اختارك الله لطريق هدايته، ليس لأنك مميز أو لطاعةٍ منك، بل هى رحمة منه شملتك، قد ينزعها منك فى أى لحظة، لذلك لاتغتر بعملك ولا بعبادتك، ولا تنظر باستصغار لمن ضلّ عن سبيله، فلولا رحمة الله بك لكنت مكانه. وإذا كان شهر رمضان قد انقضى فلا تودّعوه، بل استمتعوا به باقى عامكم.. فرمضان ليس شهراً، بل أسلوب حياة وبداية التغيير، وأفسحوا له المجال ليحيا معكم وتحيوا به طوال العام، فالصوم لا ينتهي، والقرآن لا يُهجر، والمسجد لا يترك. الاستقامة على الطاعات من جانبه، أوضح الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر، أن الإنسان إذا أراد الكرامة فى الدنيا والآخرة فعليه بالاستقامة على الطاعات، فقد وعد الله عز وجل المستقيمين بالطمأنينة والسكينة لقوله تعالي: «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، والاستقامة بعد رمضان تتطلب المداومة على العبادة والطاعة والأخلاق والصيام والقيام وقراءة القرآن الكريم تلاوة وحفظا، وتدبرا، والإخلاص ومساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين، وعفة اللسان، فيجب الاستمرار على عمل الطاعات، وعدم قطعها حتى ولو كانت نوافل، فقد كان أحب الأعمال إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أدومها وإن قل، فلو لم يصل الإنسان إلا ركعتين فى جوف الليل ويداوم على ذلك، مع الإخلاص وحسن القصد والتوجه، لكان شيئا طيبا فالمحافظة على الأعمال الصالحة ثمرة الاستقامة فإذا استقام العبد على الطريق المستقيم لسقى ماء غدقا, كما فى قوله سبحانه وتعالي: «وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا. لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا». كما يحذر الله تعالى المسلم أن يكون من القوم الذين لا يعرفون الله إلا فى رمضان، أو ممن قال الله فيهم: «ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا»، وهكذا يجب أن يكون العبد مستمرا على طاعة الله، مستقيما على دينه، فلا يعبد الله فى شهر دون شهر، فرب رمضان هو رب بقية الشهور والأيام قال تعالى: «فاستقم كما أمرت ومن تاب معك»، وقال: «فاستقيموا إليه واستغفروه». وبعد انتهاء شهر رمضان هناك صيام النوافل:(كالست من شوال)، (والاثنين، والخميس)، وبعد انتهاء قيام رمضان، قيام الليل مشروع فى كل ليلة.