شهد العالم ثلاث قمم كبرى الأسبوع الماضى جاءت مفعمة بالأحداث والتطورات التى من شأنها أن تفرض مشاهد جديدة للمستقبل العالمى وبالتحديد بالنسبة لهيكلية قيادة النظام العالمى ومنظومة القيم التى من المرجح أن تحكم عمل هذه القيادة فى ظل وضع «الاضطراب» الذى يعيشه العالم منذ انهيار النظام العالمى ثنائى القطبية، فالولاياتالمتحدة لم تستطع أن تفرض، بجدارة، نظاما عالميا أحادى القطبية بملامح «إمبراطورية» على نحو ما كانت تأمل عقب سقوط الاتحاد السوفيتى وتفكك حلف وارسو، هذه النزعة الإمبراطورية الأمريكية سرعان ما بدأت تواجه التحديات والعثرات التى وصل بها الأمر أن تحولت إلى «فشل» فى إدارة واشنطن للأزمات الدولية. وفى الوقت نفسة فإن القوى الدولية الكبرى التى استطاعت إفشال الطموح الإمبراطورى الأمريكى وحالت دون تمكين الولاياتالمتحدة من فرض نظام عالمى أحادى القطبية لم تستطع هى الأخرى إقامة نظام عالمى متعدد الأقطاب، ما جعل العالم يعيش حالة غير مسبوقة من «اللا قطبية». وسط هذه الحالة من الاضطراب فى إدارة العلاقات الدولية وتخبط سياسات القوى الكبرى جاء انعقاد ثلاث قمم كبرى ليسلط الضوء مجددا على السؤال المحورى إلى أين يتجه العالم هل إلى تعددية قطبية أم حالة فريدة من اللا نظام فى ظل ميل، وربما جنوح أمريكي، لكسر قواعد وقوانين النظام العالمى القائم؟ فقد عقدت يومى 8 و9 يونيو الحالى قمتان كبرتان الأولى جمعت قادة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبري، أى قادة التحالف الغربي.. عقدت فى مقاطعة «كيبيك»بكندا، وهى القمة التى شهدت للمرة الأولى فى تاريخها، تداعى التماسك والتحالف بين أعضائها، تداعيا ينذر بمستقبل غامض يخص علاقة الولاياتالمتحدة بحلفائها الغربيين. أما القمة الثانية فكانت لدول منظمة شنغهاى التى استضافتها الصين فى مدينة «تشينجداو»، وهى المنظمة التى تأسست عام 2001، وضمت فى عضويتها الصينوروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان، إضافة إلى عدد من الدول كأعضاء مراقبين كلهما دول آسيوية. هذه المرة شهدت قمة المنظمة حضورا كاملا لكل من الهند وباكستان بعد حصولهما على العضوية العاملة، وحضرتها إيران وأفغانستان ومنغوليا وبيلاروسيا بصفة «مراقب». انضمام كل من الهند وباكستان إلى هذه المنظمة سوف يكسبها، حتما، قوة إضافية. وعلى العكس من قمة «كيبيك» الكندية التى شهدت بدايات ما يمكن اعتباره «انفراط وحدة العالم الغربي» وتورط الأعضاء فى «حرب تجارية» فإن قمة منظمة شنغهاى جاءت لتؤكد التوسع فى العضوية والتماسك حول قيم ومبادئ للنهوض وتتحدث عما سمته «روح شنغهاى»، وتعنى بها: الثقة المتبادلة، والمساواة والمنفعة المتبادلة والمساواة فى الحقوق، واحترام التنوع الثقافى إلى جانب اعتماد منهاجية المشاورات المتبادلة والسعى للتطور المشترك. وبعد يومين فقط أى فى يوم الثلاثاء الفائت (13/6/2018) شهدت سنغافورة قمة أمريكية- كورية شمالية هى الأولى من نوعها بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب والزعيم الكورى الشمالى «كيم جونج أون»جرى خلالها التوقيع على «بيان» أخذ اسم «وثيقة» تضمنت «تعهدا» من الزعيم الكورى الشمالى بنزع كامل السلاح النووى لبلاده، سبقها تعهد من وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو بتقديم «تعهدات أمنية فريدة» لكوريا الشمالية تختلف عن تلك التى سبق تقديمها حتى الآن «فى حال استجابت كوريا الشمالية للمطالب الأمريكية». قمة سنغافورة بين ترامب وكيم هى بداية لمشوار طويل ربما يكون محفوفا بالمفاجآت السارة وغير السارة، نظرا للفجوة الواسعة بين مطالب الطرفين التى تؤكد مدى صعوبة التفاؤل بنهاية سعيدة لمشوار «الألف ميل» الذى بدأت خطواته الأولى فى سنغافورة بين ترامب وكيم هذا يعنى أن مردود هذه القمة سيبقى هامشيا على منظومة إدارة العلاقات الدولية والنظام العالمى مقارنة بنتائج قمتى مجموعة الدول الصناعية السبع ومنظمة شنغهاي. مقارنة نتائج هاتين القمتين تكشف عن أن مجموعة الدول الصناعية بدأت تفقد تماسكها التاريخى الذى تأسست من أجله فى ظل سيطرة نوازع المصالح الخاصة على المصالح الجماعية على نحو ما أكدته نتائج القمة الأخيرة للمجموعة فى كيبيك التى شهدت صورة واضحة ومثيرة ل «ازدراء» الرئيس الأمريكى لأقرب حلفائه ابتداءً من وصوله المتأخر للقمة، ثم عدم مشاركته فى أهم اجتماعاتها وبعدها مغادرته السريعة للقمة عقب انتهائها، والأدهى كان قراره سحب تأييد بلاده للبيان الختامى للقمة وهو فى طائرة متجها للقاء زعيم كوريا الشمالية، فى موقف اعتبره المراقبون «صفعة مهينة» تستوجب الرد، على نحو ما جاء على لسان رئيس وزراء كندا الذى تحدث عن «ردود انتقامية» من السياسة الأمريكية التى يقودها ترامب، وقد انعكست هذه المواجهات على مكانة المجموعة. وإذا كان ترامب يحكمه مبدأ «أمريكا أولاً» فإن أوروبا بدأت ترد برفع شعار «أوروبا الموحدة» على نحو ما جاء على لسان وزير الخارجية الألمانى هايكو ماس، وربما ينعكس هذا كله على التزامات كل الأطراف داخل حلف شمال الأطلسى (الناتو) وقد تجد أوروبا نفسها مضطرة لتأسيس قدراتها الدفاعية والعسكرية الخاصة بعيدا عن (الناتو). على الجانب الآخر تبدو مجموعة «منظمة شنغهاي» أكثر تماسكا وأكثر رغبة فى تحدى سياسة التفرد الأمريكية والرد بقوة على العقوبات الاقتصادية الأمريكية التى تفرضها واشنطن ضد كل من روسياوالصين، كما أن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين حريص على الدمج بين «الشراكة الاقتصادية الأورو- آسيوية» التى تتزعمها روسيا لتضم جميع دول منظمة شنغهاي، ناهيك عن أن دول مجموعة شنغهاى هى صاحبة الثقل الأكبر فى مجموعة «بريكس» الاقتصادية خصوصا بعد انضمام الهند وباكستان إلى عضوية منظمة شنغهاي. مؤشرات مهمة انعكست فى الوثيقة الختامية لقمة شنغهاى التى استضافتها الصين حيث تم التوقيع على 17 وثيقة تركز على تعميق مجالات التعاون المشترك، وحذرت من ازدياد عوامل عدم الاستقرار والضبابية فى مستقبل العلاقات الاقتصادية الدولية، ومن تحديات التجارة العالمية الناتجة عن تفاقم سياسات «الحمائية» (على النحو الذى تمارسه واشنطن) ومن مخاطر الأزمات الإقليمية. وهنا تبرز ملاحظتان الأولى أن البيان «الوثيقة» لم يشهد تراجع أحد عنه على نحو ما حدث فى قمة الدول الصناعية السبع، والثانية، التحدى الذى أظهرته قمة شنغهاى إزاء السياسة الأمريكية فى إدارة الأزمات الإقليمية، حيث أكدت تمسكها بالاتفاق النووى الموقع مع إيران، وأكدت سلامة ووحدة الأراضى السورية ودعم مسار «جنيف» ومسار «آستانة» الذى تقوده روسيا، ونتائج اجتماعات «سوتشي» الخاصة بالأزمة السورية. هذا يعنى أننا أمام تكتل يتفكك وآخر يتماسك ويتصاعد وهذا حتما سيكون له تأثيره المباشر على مستقبل النظام العالمى. لمزيد من مقالات ◀ د. محمد السعيد إدريس