لم يعد شرف تنظيم كأس العالم اللعبة الشعبية الأولى على سطح الأرض مجرد حدث رياضى تعيشه الدول والجماهير العاشقة للساحرة المستديرة كل 4 سنوات، وإنما شّكلت المناسبة الفريدة عصبا من أعصاب الاقتصاد الداخلى للدولة المنظمة للمونديال و«شريان حياة» لجذب الأموال وتنشيط السياحة وزيادة الدخل القومي، فضلا عن استثمار أجواء الملاعب وروح التنافس الكروى لتذويب - أو على الأقل «تهدئة»- الخلافات السياسية الحادة بين الدول المشاركة. وإذا كان مونديال 2018 هو فرصة الدب الروسى الذهبية لاستعادة أمجاد التاريخ والحضور العالمى بعد سنوات الغياب والضياع، وتعويض خسائر «فضائح المنشطات» فى أوليمبياد 1980 التى صنفت روسيا ك«دولة منبوذة» فى المسابقات الكبري، إلا أن الأمر يتجاوز حدود استعراض القدرات التنظيمية وحسن الضيافة إلى ضرورة الاستفادة من تدفق وفود منتخبات أوروبا وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية على المدن الروسية طوال 30 يوما متصلة فى تحسين الوضع الاقتصادى للبلاد، وترجمة ذلك إلى أرقام وإحصائيات محسوبة بدقة. وبقدر ما يُنظر إلى المونديال الساحر باعتباره نقطة فاصلة فى الحرب الباردة بين روسياوأمريكا والكتلة الأوروبية تحت وطأة ملفات الشرق الوسط وأزمة القرم فى أوكرانيا عام 2014، فتح الحدث الرياضى صراعا آخر على جبهتين مختلفتين، الأولى مع قطر قبل حسم مسألة تنظيم دورة 2022 على ضوء الحصار الخليجى الأخير وتداعياته وتورط «اللاعب» القطرى فى ملفات الفساد داخل الاتحاد الدولى لكرة القدم «الفيفا» ولعبة شراء الأصوات، بالإضافة إلى فضيحة «العمال الأجانب» الذين تستخدمهم قطر فى «أعمال السُخرة» ضمن إنشاء وتجهيزات البطولة. أما الجبهة الثانية فبطلها المغرب الذى يطمح لتنظيم مونديال 2026 متحديا الرغبة الأمريكية فى الفوز بهذه البطاقة، مستندا إلى نجاح نسخة 1994 فى الولاياتالمتحدة وأرباحها الخرافية وقتذاك. وتواجه قطر 3 عقبات قد تطيح بأملها فى نيل شرف التنظيم تتمثل فى الحظر الجوى المفروض على خطوط الطيران من وإلى الدوحة فى الأجواء المصرية والسعودية والإماراتية، والذى سيؤثر سلبا على حركة الطيران القادمة من مختلف قارات العالم، خاصة القارة الأوروبية صاحبة أكثر المنتخبات المشاركة فى المونديال، لا سيما وأن الحظر سيزيد كثيرا من مدة رحلات الطيران. وتظهر العقبة الثانية فى أن قطر خططت للاعتماد على جارتيها الإمارات والبحرين فى استيعاب العدد الهائل من الجماهير الوافدة مع الفرق الرياضية، خصوصا مع ما تتمتع به أبوظبى ودبى من إمكانيات فندقية عالمية، لكن مع قطع العلاقات الدبلوماسية وظرف المقاطعة تبدد هذا البديل المريح. أما العقبة الثالثة فمصدرها تأخر وصول مواد البناء اللازمة لتشييد المنشآت الرياضية والمرافق المتعلقة بالملاعب المخصصة لاستضافة المونديال، بعد قرار السعودية بإغلاق المنفذ البرى الوحيد الذى يربطها بقطر، ومن ثم قد يلجأ «الفيفا» فى حالة عدم إنهاء تسليم المشروعات الخاصة بالمونديال فى المواعيد المتفق عليها، لسحب تنظيم البطولة من الدوحة وإسناد الملف لدولة أخرى، إلا إذا مارست الحكومة القطرية هوايتها المعتادة فى تكميم الأفواه بملايينها السوداء، وراهنت على نفس الطريق الذى سلكته لتحصل على «صك» التنظيم ب«ختم» الفيفا! ويبدو أن المغرب يرفض تماما التخلى عن طموحه فى هذا الحلم التاريخي، فقد أبدى استعداده لإنفاق 6 مليارات دولار على استضافة المونديال كثالث أكبر ميزانية، بعد قطر - 200 مليار دولار - فى مونديال 2022، والبرازيل 15 مليار دولار فى 2014، فيما كلّف التنظيم جنوب إفريقيا فى 2010 حوالى 3 مليارات دولار فقط. وتفرض نقاط القوة فى ملف نسور قرطاج نفسها أمام المنافس الأمريكى من حيث توقيت المغرب المتساوى مع توقيت جرينتش المناسب للقارات، عكس التوقيت الأمريكى الذى يجعل الجماهير مضطرة لمتابعة المباريات فى منتصف الليل، فضلا عن الموقع الجغرافى للمغرب الذى يوفر سهولة فى التنقل داخليا بالنسبة للمشجعين والوفود الرسمية، لاسيما وأن الوضع الأمنى الذى يعيشه المغرب فى ال14 عاما الأخيرة (استطاعت المملكة استقبال ما بين 4 و11 مليون سائح منذ 2003 وحتى 2017)، واندماج البلد فى الحياة الثقافية مع أوروبا والمجتمع الغربى بشكل عام، بعيدا عن الاضطرابات السياسية التى تعيشها بقية دول شمال إفريقيا، كلها عوامل جذب وتقبل لفكرة استضافة المونديال فى نسخة 2026. وعلى الجانب الآخر، وضع الكاوبوى الأمريكى عدة «مطبات» فى طريق القطار المغربى أبرزها تعداد سكان المغرب (35 مليون مواطن فقط لا غير)، مما يعطى مؤشرا سلبيا لانخفاض معدل حضور الجماهير فى الاستادات خلال تنظيم المونديال، بينما إذا ما وقع الاختيار على الفريق الثلاثى «أمريكا وكندا والمكسيك» فسيضمن الفيفا نحو نصف مليار شخص تقريبا فى المدرجات، وهو الهدف الأسمى للاتحاد الدولى للعبة. ويراهن المثلث ذاته على خبرة أضلاعه الكبيرة فى استضافة المناسبات الرياضية الضخمة، وقدرة المنشآت والبنية التحتية على استقبال 80 منتخبا لتعدد المدن والملاعب والفنادق. وأمام هذه النقاط المضيئة فى الملف الأمريكى المختلط، واستعداد الفيفا تحت قيادة جيانى إنفانتينو للتجاوب مع «صفقات» الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ونجاحه فى استقطاب أطراف عربية وإفريقية كالسعودية وليبيريا وجنوب إفريقيا لملعبه، يواجه الحلم المغربى شبح الانهيار تحت أقدام الكبار! كانت هذه «عينة» داخل «مغارة» المونديال المليئة بحواديت السياسة والمال وشبكة العلاقات الجهنمية بين الكيانات العملاقة والدول الكبرى. ومن المستبعد أن يتوقف تاريخ كرة القدم عن سرد مثل هذه الحكايات المثيرة التى تبرهن على أن الحدث الرياضى تحركه صراعات وحسابات وقرارات تفوق بكثير «مفاجآت» المستطيل الأخضر!