وكأن قدر العراق أن يظل تعصف به المشكلات والتحديات حتى أصبح الاستقرار حلما بعيد المنال عن العراقيين الذين يعانون منذ عام 2003 من العنف والصراع والتدمير. مشكلة العراق الاساسية ومكمن المرض فيه والذى زرع بذرته ما بعد الغزو الأمريكى هى المحاصصة الطائفية، التى أدت إلى تفتيت البلاد وتزايد حدة الانقسام بين مكوناته ، فبعد تداعيات الغزو الأمريكى، برز تحدى تنظيم داعش الإرهابى، والذى كان أحد أعراض المحاصصة الطائفية، وتسبب فى مزيد من القتل والتدمير لمعظم المدن التى كان يسيطر عليها خاصة الموصل، وبعد أن دحرت القوات العراقية التنظيم فى عام 2017 برزت مشكلة الاستفتاء الكردى لتزيد من حدة الانقسام العراقى، وبعد أن هدأ، تعلقت الآمال بالانتخابات البرلمانية التى كانت بمثابة جرس إنذار وكارت احمر من المواطن العراقى ضد العملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية والتى كان أحد أعراضها ارتفاع معدلات الفساد وتغلغله فى مفاصل الدولة العراقية حتى وضعت العراق فى المرتبة 160 ضمن الدول الأكثر فسادا فى العالم، إضافة إلى تدنى نسب المشاركة إلى أدنى مستوى وصلت إلى 44% بعد أن كانت 60% فى انتخابات 2009، حيث أفرزت الانتخابات خريطة سياسية جديدة تصدرتها قائمة «سائرون» بقيادة رجل الدين مقتدى الصدرى، الذى رفع شعارات الإصلاح ومحاربة الفساد ووحدة واستقلال القرار العراقى، غير أن النخبة التقليدية المسيطرة على العراق منذ سنوات، وظفت العملية السياسية لخدمة مصالحها وأجنداتها على حساب مصلحة العراق العليا، قاومت عملية التغيير الجديدة وبرزت قضية التشكيك فى شرعية الانتخابات وحدوث عملية تزوير، وتعقدت العملية السياسية بعد حرق صناديق الانتخابات بعد أن أقر البرلمان العراقى قرارا بإعادة فرزها يدويا، تزامن مع ذلك تعقد مفاوضات تشكيل الحكومة العراقية الجديدة ليقف العراق فى مفترق طرق حقيقى. العراق الآن بين خيارين لا ثالث لهما: الأول أن تظل المعادلة السياسية قائمة على المحاصصة الطائفية وهيمنة النخب السياسية التقليدية بما يعنى استمرار مشكلات العراق وحالة عدم الاستقرار وربما الانجراف إلى حرب أهلية، وأن تظل إيران هى المتحكم الاساسى فى مسار العملية السياسية ورسم ملامحها عبر دعم النخب الشيعية الحليفة لها لتظل لها اليد العليا فى تقرير مصير العراق، وبالتالى تكريس الطائفية وتمزق النسيج العراقى عبر دعم طهران مكونا معينا من الشعب العراقى على حساب بقية المكونات، يقابله الدور الأمريكى الذى رسخ العملية السياسية بعد الغزو ودخل فى تنافس مع الدور الإيرانى على حساب مصالح الشعب العراقى، وكذلك استمرار الفساد وعدم الاستقرار الأمنى والسياسى فى البلاد ومن ثم تعطيلها عن عملية التنمية وإعادة الإعمار وإعادة اللاجئين والمهجرين فى الداخل والخارج. الثانى: أن ترتقى النخب العراقية إلى مستوى المسئولية وتستشعر حجم التحديات التى يواجهها العراق والتعلم من دروس التجربة السابقة والانحياز لخيار المصالحة الوطنية بين جميع المكونات العراقية، وتصحيح الخلل فى العملية السياسية، عبر استبدال المحاصصة الطائفية بتكريس دولة القانون والمؤسسات ومفهوم المواطن الذى يساوى بين العراقيين جميعهم فى الحقوق والواجبات بغض النظر عن اختلافاتهم الطائفية والعرقية واللغوية، وأن يتكاتف الجميع من أجل النهوض بالعراق الجريح ووقف نزيف الدماء ونهب الموارد وأن يعيش الجميع فى إطار عراق موحد ومزدهر لكل العراقيين، والعمل على استعادة وحدة العراق وسيادته وعروبته والتخلص من النفوذ الإيرانى، الذى يعد المرض الحقيقى للعراق، وفك الاشتباك بين النخب العراقيةوطهران، والعمل على استعادة اللحمة الوطنية بين كل أبناء العراق خاصة بين السنة والشيعة وبين العرب والأكراد. وهذا الخيار لن يتحقق إلا بتغيير الخريطة السياسية وتأسيس عملية سياسية جديدة تتضمن تغييرا سياسيا فى المعادلة السياسية عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع كل أطياف الشعب العراقى وتسعى لتحقيق الأهداف السابقة وتعمل على مواجهة تحديات العراق الكبيرة. صحيح أن هذا الخيار سيواجه بعقبات أبرزها تمسك النخب السياسية التقليدية بمواقعها ومزاياها التى حصلت عليها عبر العملية السياسية الحالية وتسعى بكل السبل إلى مقاومة أى تغيير فى الخريطة السياسية، كذلك تحدى التنافس الأمريكى الإيرانى والاستماتة فى أن يظل العراق يدور فى فلك كل منهما بما يضمن مصالحه وتأثيره، كذلك تحدى استمرار المجموعات المسلحة وعشرات الميليشيات مثل فصائل الحشد الشعبى المختلفة من العباسيين والزينبيين والفاطميين ولواء أبو العباس وعصائب أهل الحق والنجباء وغيرها من الميليشايت التى يشرف عليها فيلق القدس الذراع العسكرية للحرس الثورى، حيث ان تغيير العراق يتطلب نزع اسلحة كل الميليشيات وإعادة بناء مؤسسات الأمن والجيش العراقية وأن تحتكر استخدام السلاح، كذلك تعديل الدستور العراقى، وتغيير قانون الانتخابات الذى ينحاز للتكتلات السياسية الكبيرة، والأهم تصاعد النزعة الوطنية على النزعات الجهوية والطائفية، كما تبرز أهمية الدور العربى فى مساعدة العراق على الخروج من أزماته وإعادته إلى البيت العربى، وبدون ذلك سيظل العراق يدور فى حلقة مفرغة من الأزمات والصراعات، ويبقى الاختيار أمام النخبة العراقية فى تقرير مستقبل العراق الذى يقف الآن فى مفترق طرق حقيقى سوف يحدد العراقيون بأنفسهم أى طريق يسير. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد سيد أحمد