قد تكون أيها العيد كما أنت، فالمناسبات لا تقدم، أو تشيخ، تأتى فى موعدك تماما بنفس الوفاء، والشوق القديم لتلك الوجوه النضرة، والملامح البريئة التى كانت تحتضن ملابسها وأحذيتها الصغيرة المشتراة حتى آخر جنيه فى راتب الأب الموظف البسيط بإحدى المؤسسات الحكومية، والتى لم يعد موجود أغلبها الآن، أو المخيطة بيد أم حانية. ادخرت من مصروف بيتها، واشترت أقمشة قطنية محلية الصنع، عندما كنا نزرع قطننا المميز، ونصنعه فى أقدم وأعرق مصانع الغزل والنسيج لدينا، وأخرجت من تحت يديها فساتين ملونة، بكرانيش كثيرة تشبه أحلامنا الكثيرة جدا، التى لم يتحقق أغلبها رغم بساطتها.. هل تعلم أيها العيد عن أحزاننا "المكتومة" بقلوبنا ونحن لا نجدك أبدا؟!.. مهما اشرأبت القلوب قبل العيون لمحاولة رؤيتك فى أى شارع من الشوارع المزدانة بعناقيد النور المستوردة من الخارج، ونحن نلف على أرجلنا مع البنات والأولاد فى محلات كبيرة جدا، بأدوار متعددة، تسمى مولات، بها بائعين شباب، خريجى جامعات، يعرضون كل شىء صنعته بلاد الدنيا إلا نحن؟! أيها العيد عندما كنا صغارا.. أحن إليك كثيرا كثيرا، ولا أراك إلا فى أحلامى، وعندما أصحو أحكى عنك لأولادى، كأنك رجلا طيبا عاشرناه قديما فى الجوار، أو كأنك جدنا العجوز الذى تربينا على حكاياته.. فى محاولة منى لأن أوثق لك فى كتاب تاريخ عائلتى وجيرانى وبلدتى، كى يظل الجميع يذكرونك، ولا ينساك أحد بعدى، بكل بهجتك القديمة التى كنت تهديها إلينا. ليلتك الشجية، الزاخرة بالأحداث كأنها شهر كامل، طقوس الإعداد ل"قعدة الكحك" التى تبدأ قبلها بأيام عندما يحضر الأب الدقيق الموصى عليه منذ فترة، دقيق أصيل لا يهرب السمن منه، فيخرج جافا بعد عمله، ويحرج الأم أمام الأقارب والجيران، شراء المناقيش المعدنية ورائحة الكحك، السمسم المحمص والعجوة المفرومة بعناية، الخميرة من الفرن البلدى القريب، إحضار الصاجات السوداء من آخر جارة انتهت من عمل كحكها، ولا ننسى الجلسة الجانبية الأهم، "سبرتاية" القهوة للجدة أو الخالة الأكبر سنا لزوم ضبط دماغ النساء العاملات على صناعة كل هذه البهجة القادمة.. يأخذ أصغر طفل مكانه قبل كل الجالسات لبدء العجين، تنطلق الضحكات الصافية على معاركنا الجانبية ونحن أطفال على من يقوم بالمساعدة فى تشغيل ماكينة البسكوت اليدوية، ثم تحسم الجدة أمر الجميع بتوزيع الأدوار. أول ما يختمر العجين، تبدأ الخالات فى عمل عرائس صغيرة بأسمائنا، تضعها فى الصاجات بعناية، وتؤمن لكل طفل عروسته، ليأكلها بعد أن تأتى من الفرن عند الفجر ساخنة. فى الشارع، يتقابل جميع الأولاد ما بين ذاهب أو عائد، الكل يحمل على رأسه كحك العيد، هذا لنا، أو للجيران، الكل يساعد وهو يبتسم فى حب وفرحة كأنهم يحملون السعادة فوق رؤسهم، وينقلونها إلى البيوت مع طلوع الفجر.. صارت تلك الحكايات الآن من نوادرنا القديمة، صرنا كبارا بما يكفى لنأخذ نفسا عميقا ونحن نستنشق عبق الماضى من خيالنا ونحكى عنك. أيها العيد، لم نعد نعلم ما بنا من أحاسيس مختلطة، ما بين الحنين لأفراحنا القديمة، والرضا بمتابعة سعادتنا بأجيال جديدة حولنا، لهم معك حكايات أخرى، غير حكاياتنا. ولا نعلم هل حقا نشتاق إليك، أم نشتاق لأنفسنا عندما كنا معك. [email protected] لمزيد من مقالات وفاء نبيل ;