فى ليالي رمضان، كنا نحلق حوله، وهو ممسك بشعر الصوف، يلفه على قطعتى من الخشب الدقيق، تعمل أصابعه فى براعة، يتحول الشعر الى خيوط، ثم الخيوط الى طاقية، كان يحرص أن يصنعها لنفسه بنفسه ليزين بها رأسه الذى صار بلون القطن الناصع لكثرة ما مضى عليه من أعوام وأحداث، وقبيل ليالى الاعتكاف يكون جدى قد انتهى من صنع طاقيته الفريدة، غزل الصوف كان هوايته منذ أن أحيل الى التقاعد من عمله المضنى كمدير فى أول سنترال فى هذا البلد الجنوبى «سوهاج»، مع انشغال اصابعه بغزل الصوف، كان ينسج لنا الحكايات المثيرة، منها الحقيقى الذى عاصره فى عهود الملكية ثم الجمهورية المصرية الاولى وما تلاها من احداث ومنها الخيالى، كانت قصص البطولات المصرية ايام العدوان الثلاثى حتى ايام النكسة تبهرنا، تجعل انفاسنا تتقطع لهاثا وعيوننا تحملق فى وجهه تستنطقه المزيد، كنا نخشى ان ينام من الاجهاد قبل ان يكمل الحكايات، ونحن لا نزال ايقاظا، وحين كبرنا، كنا نتعجب من ذاكرته الفريدة التى تحمل كل تلك القصص المبهرة. كان يحلو لنا اولاد الاعمام والعمات ان نتجمع فى بيت جدى فى ليالى رمضان الأخيرة، فالدار كان واسعا، وساحته الممتدة تسمح لنا لنلعب بحرية بعيدا عن بيوتنا الضيقة محدودة الجدران، وعندما كان يعتكف فى خلوته، كنا نلف وندور حول غرفته كمن ضاع منا شىء ثمين، لا يلهينا عن انتظاره إلا صاجات الكحك والبسكويت و«الفايش»، ونساء العائلة تعجنها وتخبزها فى فرن كبير على سطح البيت، وكنا نشاركهن فى تخريب بعض العجين وخبزه فى اشكال عجيبة نضحك لها كثيرا حين تخرج ساخنة من الفرن، وعندما يخرج جدى ليلة العيد من خلوته، يكون هذا هو مولد العيد الحقيقى، يتفقد بنفسه احذيتنا الجديدة التى اشترتها جدتى لنا، وملابس العيد التى اشتريناها بأنفسنا، ليطمئن أن أحدا من احفاده لا ينقصه شيء، يدس يده المعروقة فى جيبه العميق الذى كنا نعتقد أن به دهاليز سرية تحمل كل شيء، نقود وحلوى والعاب صغيرة مسلية، ويمنح كلا منا بضعة قروش، حسب اعمارنا، كان لعيديته مكان خاص فى نفوسنا ، فقد كانت تعنى انه راض عنا ويحبنا، ننطلق فى صباح العيد الى ضريح «العارف بالله» حيث كان يقام بجانبه ملاهٍ بسيطة فى الأعياد، عبارة عن مراجيح تقليدية على شكل «قورب خشبى» ولعبة «الزقازيق» وهى أربعة صناديق خشبية مثبتة فى حوامل تلف وتدور حول نفسها فى بطء غريب، كانت هذه هى العابنا، فى المساء تكون جدتى وباقى نساء العائلة قد اعددن وليمة العشاء، من كل ما لذ وطاب، ونجلس وقد انهكنا لعب النهار لنأكل اشهى وجبة ونحن نغالب النعاس، ونبات نحلم بثانى ايام العيد، وكان ثانى يوم لزيارة باقى الاقارب والجيران ثم اكل الكشرى من العربات الجائلة فلم يكن للكشرى حينها محلات خاصة، وفى هذا اليوم ترتاح نساء العائلة من الطبيخ والخبيز لتعيش راحة العيد وفرحته. يمضى العيد، وبعده عشرات الاعياد ، يرحل جدى فى يوم حزين وبيده مغزلة الصوف وعلى وجهه نور وابتسامه، وتكمل جدتى مسيرة الحكايا فى ليالى رمضان الجميلة وقد غاب عنها احد شموعها، وحين كبرت وتخرجت، كان يحلو لى ان ازور بيت جدى واستلهم منه الذكريات البريئة الرائعة، التى مازلت أعيش عليها وانا أصارع بكل ما أوتيت من قوة وحكمة هذا اللص الذى سرق منا سكر الأعياد واستلب فرحتها، اللص الذى جعل أبناء هذا الجيل فى الطبقة المتوسطة وما فوقها يرون فى زيارة الجد أو الأقارب صرعة قديمة تعود للستينيات، ويكفى فيها رسالة عبر الانترنت أو الهاتف المحمول اللعين، ويرون فى العيدية شيئا تافها مقارنة بما يتلقونه يوميا من مصروف الجيب ، وملابس العيد شيئا عفي عليه الدهر، وخبيز العيد بفرن البوتاجاز «تعبا من غير لزوم» ويكفى شراء كحك العيد الجاهز من أى مكان، وفى قصص البطولة والامجاد اساطير ليس لها معنى، تدحضها أفلام الأكشن الأمريكية، وفى لمة مائدة الطعام «عادة قديمة» يكفى معها ان يأخذ الولد طبقه ويذهب لغرفته لاستكمال لعبة على الكمبيوتر او «شات» مع الصحاب ،او فيلم اجنبى عمل له توا «داون لوود»، وكأنه فى بنسيون، وان جلس على مائدة الطعام مكرها وبالامر ، فان صوت الرسائل المتبادلة بين وبين اصحابه على «البلاك بيرى» هو الصوت الوحيد الذى يقطع صمت الجمع الجالس وعلى رأسه الطير وهو يلوك الطعام. لقد سرقت تقنية الاتصالات الحديثة فرحة اعيادنا، وجعلتها بلا سكر، سرقت لمة العائلة ، ودمرت لغة التواصل المباشر والتخاطب الطبيعى بين الأبناء والآباء، حتى طلباتهم صارت اوامر مقتضبة كرسائل «إس إم إس»، بت انظر الى عيون ابناء هذا الجيل عسى ان ارى فيها فرحة للعيد، او ابتسامة من القلب، فلا أرى إلا وجوها جامدة على الشاشات، وايادى متشبثة بالهواتف أو أزرار الكمبيوتر، وأرواحا خاوية، وعقولا وانفس لا تحمل أى ذكرى جميلة، فأشعر بالشفقة عليهم، لأنهم يجدون غدا أى ذكرى يروونها لأبنائهم، أو علهم يجدون ولكنى لا أعلم الآن ماذا سيجدون، وماذا سيكون الجيل القادم مع «تغول» التقنية الحديثة فى بيوتنا وسيطرتها على عقول أبنائنا لتجعل علاقتهم بأسرهم كوجباتهم «تيك أواى» رحم الله جدى الحاج سيد كم اشتاق اليه وإلى حكاياته التى مازلت أعيش على عبقها.