مهنة السمسرة معروفة في كثير من بلاد العالم, فقد تعاظمت أهمية أسواق المال في العقدين الأخيرين علي نحو لا سابق له. ولم تكن الأزمة الكبري التي ضربت الاقتصاد العالمي منذ خريف2008 إلا نتيجة اختلالات جوهرية في أسواق المال الأمريكية والأوروبية. وفي مصر يعمل عدة آلاف بهذه المهنة من خلال شركات السمسرة وتداول الأوراق المالية. ويزداد الاقبال عليها لأنها تدر دخلا مرتفعا من خلال العمولات التي يحصل عليها العاملون فيها. وهي تعتبر مهنة جديدة ارتبط ظهورها بوجود بورصة بالمعني الحديث بغض النظر عن حجم التعاملات فيها. ولكن المصريين عرفوا السمسرة غير المحترفة منذ زمن طويل, وقبل أن تنشأ الشركات المتخصصة التي يرتبط دورها في الأساس بالبورصة. كان العمل في السمسرة شائعا في مجالات معينة أهمها بيع وشراء وتأجير العقارات أرضا ومباني وشققا. غير أنه منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي, بدأ نوع آخر من السمسرة ينتشر في كل مجال تقريبا ويصبح جزءا من نمط الحياة في مجتمع أخذت قدرته الإنتاجية تتراجع, وكذلك قيمه التي تحفز علي العمل المنتج الخلاق. وبين آخر سبعينيات القرن الماضي ونهاية العقد الأول في القرن الحالي, تضاعف عدد المصريين. كانوا نحو40 مليونا, وصاروا أكثر من80 من الملايين. ولم تستطع السياسة الاقتصادية تحقيق النمو اللازم لاستيعاب هذه الزيادة الهائلة واستغلال ما تنطوي عليه من إمكانات وقدرات والحد مما قد يترتب عليها من تفاقم المشاكل والأخطار. كما لم ترق السياسة الاجتماعية إلي المستوي اللازم لحفظ التوازن في مجتمع اختنق من شدة الزحام واحتقن لقلة الفرص المتاحة وازدياد التكالب عليها من ناحية, ولتوسع الفجوة بين شرائحه العليا وما دونها من ناحية ثانية, فضلا عن عدم وجود سقف تقف عنده تطلعات الشرائح الوسطي التي انهمكت في البحث عن سبل لزيادة الدخل بأية طريقة وبكل وسيلة إما في الداخل أو في الخارج. فقد أخذ هذا السقف في الارتفاع طول الوقت بسبب توسع نطاق الانفاق الترفي للشرائح العليا وبعض الفئات الجديدة التي تقف بين هذه الشرائح والفئات المتوسطة في المجتمع, مما أدي إلي انهيار معدلات الادخار والتسابق لشراء عقارات وسلع وخدمات نقدا وبالتقسيط. وحدث ذلك في مجتمع أخذت الفوضي تسوده في الشوارع والميادين كما في العلاقات والتفاعلات بين أفراده وفئاته المختلفة. وعندما تقترن عشوائية التطور المجتمعي بفوضي المعاملات الاقتصادية في غياب سوق منظمة للعمل والتشغيل, يغدو السعي إلي زيادة الدخل عبر أشكال طفيلية جديدة من الوساطة تدخل في نطاق السمسرة هو عمل من لا عمل له. كما أصبح عملا إضافيا لمن لا يجد سبيلا إلي عمل ثان يزيد دخله, بل أصبح الحصول علي المال عبر أشكال لا نهائية للوساطة شائعا حتي لدي بعض من لا حجة لهم. وهكذا بدأ تحول السمسرة إلي نشاط طفيلي شديد التنوع في كثير من المجالات تحت ضغط الحاجة, ولكنها لم تلبث أن توسعت وصارت سبيلا لتنمية الثروات وسببا في ازدياد تشوه البناء الاجتماعي. وكان طبيعيا, والحال هكذا, أن يضرب مفهوم السمسرة والوساطة والعمولة ويختلط بالرشوة والنصب والتحايل والخطف. وما قضية الرشوة الكبري التي كشف عنها النقاب أخيرا في وزارة الإسكان إلا تعبير عن جانب من جوانب هذا الخلل. وكان موحيا للغاية كلام متهمة مفرج عنها في هذه القضية استضافتها إحدي القنوات الفضائية عندما بررت تقديمها رشوة للحصول علي قطع أراض لبيعها بسعر أعلي, قالت: لست الوحيدة. ثلاثة أرباع مصر فعلت ذلك. وهي لم تقل هذا الكلام من فراغ بغض النظر عن فجاجته. فالمشهد العام في المجتمع يدل علي أنه أصبح مجتمع سماسرة بدرجة أو بأخري. غير أنه ليس كل من يسمسر ينتهك القانون. فالقسم الأكبر بين ممارسي السمسرة لا يخرجون علي القانون. فالمشكلة ليست في الخروج علي القانون, وإنما في انتشار هذا النشاط الطفيلي في المجتمع علي نطاق أوسع مما يتخيله كثير من المعنيين بالتفاعلات الاجتماعية في بلادنا. فانتهاك القانون في بعض جوانب هذا النشاط ليس هو الخطر الأكبر سواء لأنه الأقل انتشارا, أو بسبب ضبط الكثير من ممارساته. فالأكثر خطرا في هذا المجال هو التداعيات الخطيرة لانتشار أنواع كثيرة من السمسرة لا يمكن أن يعاقب عليها القانون في أي بلد, وما يقترن بها من ذهنية طفيلية تجعل كل شيء قابلا للبيع والشراء والإيجار, بمن في ذلك البشر أنفسهم. خذ مثلا السمسرة في مجال تزويج فتيات صغيرات في عمر الورود من شيوخ وكهول خليجيين, أما السمسرة الانتخابية فحدث ولا حرج, بعد أن أصبحت جزءا لا يتجزأ من عملية الاقتراع في انتخابات مجلسي الشعب والشوري بل في المجالس الشعبية المحلية أيضا. ولم يكن تنامي الانفاق الانتخابي, وبلوغه مبالغ خيالية, إلا نتيجة التوسع في هذا النشاط. فأصبح هناك سماسرة انتخابات معروفون في معظم الدوائر, إن لم يكن في جماعيات. وهم يوردون الناخبين الذين يدفع المرشح لهم في مقابل أصواتهم فيما بات يعرف بمشكلة شراء الأصوات. وليس هذا إلا نذرا يسيرا مما يحدث في مجتمع اندفع كثير من أبنائه إلي زيادة دخولهم بأية طريقة, وعبر أية سبوبة أو نحتة, وأصبح شعار أخطف وأجري قيمة سائدة فيه, وبات مستعدا لالتطبيع مع كثير مما كانت تقاليده تأباه. ومجتمع هذه حالة يزداد فيه من يقبلون ما لم يكن ممكنا قبوله من قبل بحيث يصير كل شيء قابلا للبيع والشراء والإيجار بما في ذلك العلاقات الإنسانية وصولا إلي الحب والزواج. وفي مثل هذا المجتمع يكون انتماء الفرد الأساسي هو لنفسه التي يستغرق فيها إلي حد الانفصال عن ميحطه العام ومن ثم عن وطنه الذي لا يعود بالنسبة إليه, والحال هكذا, أكثر من مكان لا معني له لديه ولا قيمة. فالمجتمع الذي تشيع فيه السمسرة يكف عن أن يكون مجتمعا طبيعيا. والوطن في مجتمع السمسرة ليس أكثر من مكان لا يتميز علي غيره, بل يتفوق عليه أي مكان آخر يجد فيه المرء رزقا لا يتوفر مثله فيه. وهذا هو ما ينبغي ألا نغفله عند أي بحث في قضية الانتماء التي تثارمن وقت إلي آخر بطريقة سطحية تفتقد العمق المجتمعي والبعد الاجتماعي. كما أنها تفتقر إلي وضع العلاقة بين الإنسان المصري ومحيطه العام اليوم في سياق التحولات الاجتماعية التي حدثت منذ سبعينيات القرن الماضي.