كل عام وأخوتنا المسلمون بفرح وسعادة، فشهر رمضان يحمل دائماً سمات الفرح على كل الوجوه، ففيه الفرح الروحى بجانب الفرح الاجتماعى والأسري. وكعادة الأعياد والمواسم فى مصر تأخذ أبعادا احتفالية فى البيوت والشوارع. فالأعياد فى مصر وريثة التراث الفرعونى بطريقة الاحتفالات الشعبية، هذا بجانب التراكم التراثى الذى جعل مصر لها طابعها الخاص فى معايشة كل شيء حتى الأمور الروحية. ومن الغد أيضاً يبدأ الأقباط فى صوم يسمى صوم الرسل وهو أول صوم صامه رسل السيد المسيح بعد صعوده إلى السماء انتظاراً لحلول الروح القدس. وبذلك تكون مصر كلها من الغد فى حالة صوم كى تصير بلادنا فى حالة روحية خاصة إذ يصوم المسلمون والأقباط كل حسب عقيدته وطريقة صومه إلا أنه فى النهاية الصوم والصلاة للإله الواحد الذى نعبده جميعاً. والصوم هو حالة اقتراب من الله كى تهذب نفوسنا من كل سوء، حتى تصير القلوب عامرة بالنور، والعقول مستنيرة فلا يجتمع الصوم والصلاة إلى الرب مع الكراهية والضغينة أو الشر بأى صورة من صوره. وقد كانت الأصوام فى التراث البشرى هى أحد أركان الاستنارة فيقول هيرودوت عن أجدادنا القدماء إنهم كانوا يصومون ثلاثة أيام كل شهر ويعتبرون هذا نوعا من التطهير والتقديس. ويقول الفيلسوف اليونانى أبيقور الذى عاش فى القرن الرابع قبل الميلاد: «إنه قبل أن يعمل عمل مهما فيه تفكير يصوم أربعين يوماً». وكان سقراط الفيلسوف الشهير يصوم عشرة أيام قبل أن يلتقى تلاميذه ليلقى عليهم تعاليمه ليكون مستنير العقل. وكان أبقراط الطبيب اليونانى الشهير يجعل المريض يصوم حتى يتخلص الجسم من سمومه. ويقول السيد المسيح عن الشيطان: «هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم» (مر 9: 29). ولكن الصوم ليس تغيير الأطعمة أو عدم تناولها فقط ولكنها حالة روحية يعود الإنسان فيها إلى حالة البر والخير. فالصوم كما هو صوم الجسد هو صوم النفس أيضاً وفعل الخير، فيقول الرب ل «إشعياء» النبى فى العهد القديم الإصحاح 58: «أليس هذا صوماً أختاره، حل قيود الشر. أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك؟ إذ رأيت عرياناً أن تكسوه، وأن لا تتغاضى عن لحمك، حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك... حينئذ تدعو فيجيب الرب، تستغيث فيقول: هأنذا». فأصوامنا لابد أن تكون بداية تغيير فى سلوكنا الخاص، والذى يصوم بحق يأخذ قوة من الله لتغيير حياته. ولكن ماذا يفيدنا أن كنا نصوم عن الأطعمة ولا تزال قلوبنا مظلمة وحياتنا بعيدة عن الله. فالصوم حالة روحية يجب أن تشمل كل أمور الحياة. فالجسد الصائم لا تكون الأمور الأرضية والشهوات هى التى تتحكم فيه، بل تعود للإنسانية إمكانية التحكم فى الجسد. وسقوط آدم وحواء جاء نتيجة عدم إمكانية التحكم فاشتهيا ثمرة محرمة، وكان هذا بداية فقدان الإنسانية لحريتها الحقيقية. فالحرية ليست فى كسر القيود الخارجية بل فى الخروج من العبودية الداخلية. وصوم النفس أيضاً هو رفض كل شر والتحكم فى نزعات الفساد الداخلي، فالصائم يجب أن يكون فى حالة نور وخير على كل المستويات. ولعل من رموز صوم رمضان هو الفانوس الشهير رمز للاستنارة فى الصوم. وإن كان الفانوس له تاريخ مصرى قديم، فقد كان يستخدم فى الأعياد المصرية الفرعونية، وحين دخلت المسيحية صار رمزاً لأعياد الميلاد والغطاس، فيقول المقريزي: «أدركنا عيد الميلاد بالقاهرة وفيه يباع الشموع المزهرة يسمونها الفوانيس ويعلقونها فى الأسواق». ويقال إن الخليفة الفاطمى المعز لدين الله حين دخل القاهرة ليلاً استقبله أهلها حاملين الفوانيس والشموع وصاروا يطوفون حول قصر الخليفة بفرح وتهليل. ولكنه ارتبط أيضاً بشهر رمضان إذ كانوا فى ليلة استطلاع الهلال يخرج الخليفة ومعه المشايخ وخلفهم الأطفال يحملون الفوانيس ليلاً، وحين يستطلعون الهلال تعلق الفوانيس على مآذن الجوامع إعلاناً بقدوم شهر رمضان. ويطوف الأطفال فى الشوارع بالفوانيس وهم يغنون أغانى تراثية قد حفظوها من جيل إلى جيل، وهى «وحوى يا وحوى أياحا» وهى كلمات مصرية قديمة تعنى «استقر استقر يا قمر» أى القمر قد ظهر. ويغنون أيضاً «حالو يا حالو رمضان كريم يا حالو» وهى كلمة قبطية تعنى االشيخب لتكون الأغنية «يا شيخ يا شيخ رمضان كريم» وهذا كى يأخذ الأطفال الحلوى من الكبار فى البيوت. وهكذا هنا فى مصر تمتزج الروحانية بالتراث والأناشيد والأغاني، بل يمتزج التاريخ كله فى شوارعنا وحوارينا. فالفرحة برمضان يعبر عنها بكلمات مصرية قديمة وقبطية وعربية، والفانوس يحمله عبر التاريخ المصرى القديم والمسيحى والمسلم. ومن ينظر إلى سماء مصر سيرى المسلات ترتفع بروحانية القدماء بجانب منارات الكنائس ومآذن الجوامع لترسم لوحة فريدة فى العالم هى مصر الحضارة التى لا تموت، والحب الذى يجمع الكل فى وطن واحد. كل عام ونحن بخير وفوق كل محاولة للفرقة أو التقسيم. لمزيد من مقالات ◀ القمص أنجيلوس جرجس