يبدو أن الجلسات الُعرفية التى تلجأ إليها بعض المناطق لحل الخلافات غير كفيلة وحدها لنزع فتيل الفتنة بين المتشاحنين دون أن تصاحبها إجراءات أمنية صارمة ورادعة مُلزمة بذلك، خاصة وأن الكثير من الناس يرى أن جلسات الصُلح بحضور رجال الشرطة تكون أكثر إلزامًا للشروط المُتفق عليها بين الطرفين المتخاصمين، لمنع تجدد هذه الخلافات مرة أخرى والتى تكون دائمًا سببًا فى وقوع كارثة لا يُحمد عقباها، أو ربما تُزهق فى طريقها أرواح لشباب فى مقتبل العمر، وكان ذلك واضحًا فى الواقعة المأساوية التى شهدتها منطقة الصفا بمحافظة بورسعيد. البداية كانت منذ عامين تقريبًا، عندما نشبت مشاجرة بين الشاب «محمد حسين» وعدد من الشباب فى حى الزهور، على خلفية معاتبته لهم بعد أن قاموا بمعاكسة «فتاة» استنجدت بالمارة، الأمر الذى أدى إلى قيام أحد العاطلين ويدعى «سمير» بإشهار سلاح أبيض فى وجه «محمد» فى محاولة منه لتسديد طعنة غدر له، إلا أن الشاب تمكن من انتزاع السلاح منه بالقوة وبادره بطعنة أدت إلى أصابته بجرح قطعى فى منطقة الوجه. لم يهدأ بال الشاب المُصاب منذ أن أبلغه الطبيب بأن الجرح القطعى الذى أصاب وجهه يصعب علاجه، وأنه تسبب فى إحداث عاهة مستديمة ستلازمه طوال العمر، لكنه من الممكن أن يُجرى عليها بعض عمليات التجميل لتختفى ملامح هذه الإصابة بعض الشيء من وجهه، حتى قرر الشاب أن يتشبث برأى الطبيب، وأن يخضع لعمليات التجميل ليعالج ما يمكن علاجه وليظهر أمام أقرانه وأصدقائه بمظهر أفضل، لكن فى هذا التوقيت كان كل ما يشغل الشاب هو الانتقام من «محمد » سواء أجلًا أم عاجلًا. والد «محمد » لم يتخل لحظة واحدة عن الشاب المُصاب «سمير» منذ أن وطأت قدماه باب المستشفي، وقرر أن يلازمه فى المستشفى بل ويتكفل بعلاجه، ربما لتهدئ هذه الخطوة حدة الانتقام التى قرأها فى عيون الشاب، ورغم الغضب الذى كان يبدو على أسرة «سمير» إلا أنهم تقبلوا مبادرة والد محمد، وقرروا أن يوافقوا على طلبه فى تحّمل كافة مصروفات العلاج لنجلهم، وبالفعل أجرى الشاب عمليات التجميل المطلوبة وانتهى من كورس علاجه بالكامل. اجتمع أهل الخير فى جلسة عُرفية كبيرة جمعت بين أسرة محمد وأسرة الشاب المُصاب سمير فى محاولة منهم لطى الخلافات بينهما، وفتح صفحة جديدة تحقن دماء الانتقام التى يمكن أن تسيل إثر تجدد هذه الخلافات بين الطرفين مرة أخرى، وأن ترسّخ عندهما مبدأ «عفا الله عما سلف»، وبالفعل وفى حضور منظمى الجلسة بنية الصلح، وتعاهدا سويًا أمام الجميع بأن لا يسمحا للخلافات بأن تدب مرة أخرى بينهما، لكن أحيانًا الشيطان يحرّض أولياءه بأن يخالفوا العهد الذى قطعوه على أنفسهم، فقد قرر الشاب المُصاب أن ينتقم لما حدث له من محمد، وبدأ يتردد إلى منزله بحى الزهور ليراقب تحركاته، حتى استشعرت الأسرة بالمكيدة التى يدبرها هذا الشاب ضد نجلهم مما جعلهم يطلبون تدخل أهل الخير للضغط على الشاب بالتراجع عن تصرفاته واحترام الاتفاق الذى أبرم بينهما لوقف هذه الخلافات، لكن الشاب قرر أن ينفذ مخططه الشيطانى وأن يسدد طعنتين لمحمد أودتا بحياته قبل وصوله إلى المستشفي. جلال العشرى خال المجنى عليه روى لنا تفاصيل مقتل نجل شقيقته قائلًا: «يوم الواقعة توجه محمد إلى أحد المطاعم بحى الصفا المجاور لحى الزهور التابع لدائرة قسم شرطة الضواحى بمحافظة بورسعيد وذلك لشراء وجبة غذائية له، وهناك اعترض طريقه سمير الشاب المُصاب هو وصديقه عبده، واختلقا مشادة مع المجنى عليه تطورت إلى مشاجرة قام المتهم على إثرها بإخراج مطواة من بين طيات ملابسه وسدد له طعنتين، إحداهما أصابت يده والأخرى كانت طعنة نافذة فى الرقبة. منذ انتهاء جلسة الصلح وكان المتهم يتردد دائمًا إلى منزل المجنى عليه بحجة السؤال عنه، حتى استشعرت شقيقتاه نظرات الغدر التى كانت تبدو على وجهه. تعدى المتهم فى إحدى المرات على شقيقتى والدة المجنى عليه باليد، بعد أن طلبت منه عدم التردد على منزلها مرة أخرى للسؤال على نجلها، وقام زوجها بتحرير محضر فى قسم الشرطة بالواقعة، وقد تم ضبط المتهم وعرض على النيابة التى أمرت بحسبه، لكن سرعان ما تنازلت الأسرة عن المحضر استكمالا لمحاولات طى الخلافات، وربما لتكون خطوة فى تهدئة نار الغضب التى كانت تسيطر على قلب المتهم وأسرته. وقد تمكنت فريق البحث الذي امر به اللواء جمال عبد البارى مساعد وزير الداخلية لقطاع الأمن العام من ضبط المتهمين في الجريمة. اعترافات المتهم أمام النيابة فور القبض عليه هو وصديقه أكدت أنه كان يراقب تحركات المجنى عليه منذ الواقعة الأولى التى كانت منذ عامين، وقرر الانتقام منه خاصة بعد معايرة أحد أصدقائه بما حدث له من المجنى عليه، فيما توصلت تحريات رجال مباحث قسم شرطة الضواحى إلى أن المتهم سمير الشهير ب«التوأم» (19 سنة) وصديقه عبده (17 سنة)، تربصا بالمجنى عليه وتتبعاه منذ خروجه من المنزل متوجهًا إلى حى الصفا، وقام المتهم الأول بتسديد طعنتين له فى الرقبة واليد أمام مبنى مستشفى الصحة النفسية، ثم فرا هاربين فور سقوط المتهم أرضًا غارقًا فى دمائه، مستقلين دراجة بخارية حتى تم إلقاء القبض عليهما، وإحالتهما للنيابة.