تتراجع مسألة تحرير فلسطين، على المستويين الوطنى الفلسطيني، والقومى العربي، لجهة التعبيرعنها فى الخطابين الدينى والسياسى اليوم، كما لم يحدث على مدى العقود الستة الماضية، ذلك أنه منذ الجهاد الذى انطلق قبل 1948، وإلى حرب 1973 المجيدة ضمن حروب قصيرة وأخرى طويلة الأمد بقى الخطابان ثابتين، حيث كان أمر التحرير موكولاً للجيوش النظامية، والسلطات الشرعية، وقد عملت هذه الأخيرة، مهما يكن النقد الموجه إليها فى السلم والحرب، على توعية الجماهير بأهمية القضية الفلسطينية. وخلال العقود الماضية، كانت القضية الفلسطينية تتحرَّك على مساريْن، الأول: فلسطينى وجودي، تجلَّى فى التنظيم والتعبئة والمقاومة عبْر منظمة التحرير الفلسطينية، والثاني: عربى داعم، عسكريا بالجيوش خلال حروبنا الكبرى مع إسرائيل، وماليا ولوجستيا بشكل دائم، ودبلوماسيا وسياسيا فى المحافل الدولية، وقد شكَّل الدافعان الوجودى الفلسطينى والعربى القومى ثنائية حافظت على استمرار القضية إلى غاية اغتيال الزعيم الراحل محمد أنور السادات(1981)، حيث سيطرت الجماعات الإرهابية التابعة لتيار الإسلام السياسى على القضية، وحوَّلتها إلى أجندة عمل، وأفقدتها بعدها التحرُّرِي، وعلى خلفيتها أدَّعت الجماعات الإرهابية الحق فى إسقاط الأنظمة القائمة، وتحويل دولنا إلى نوع من الفوضى، وقد اشتدَّت مع نهاية 2010، فيما عرف ظلماً وزوراً بالربيع العربي. هكذا إذن، حوّلت الجماعات الإرهابية تحرير فلسطين إلى مجرد شعار يخدم المشروع العدائى للدول العربية، بل إنه يخدم بشكل مباشر إسرائيل، فجنود بيت المقدس مثلا، يريدون تحرير فلسطين، بقتل الشعب المصرى فى سيناء، والجماعات الإرهابية مثل: «جند الإسلام» و«النصرة» و«أحرار الشام» تسْعى لتحرير فلسطين بقتل الشعب السورى واسقاط النظام القائم، بدل تحرير الجولان بحيث تكون البداية منه باتجاه القدس، والقاعدة وأتباعها، يحدثون الخراب ويسفكون الدماء فى السعودية واليمن، لأجل تحرير فلسطين، وتحرير شبه جزيرة العرب من الكفار، كما جاء فى احد بيانات القاعدة بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001. الأمر لا يقف عند الجماعات الإرهابية، بل يتخطاها إلى الدول التى تريد أن ترث العرب فى تحريرهم للقدس، فإيران مثلا تعمل على تحرير فلسطين من خلال تقوية الصراع المذهبى والطائفى فى العراقوسوريا، وفى تقزيم الدولة اللبنانية لصالح حزب الله، وكذلك الحال لما تقوم به تركيا تجاه سوريا بالحرب عليها ودعم الجماعات الإرهابية بما فيها داعش، وضد مصر بالتآمر عليها من خلال دعم الإخوان، وكل من إيرانوتركيا لا تختلفان عن الجماعات الإرهابية لجهة رفع شعار فلسطين، فى حين تتعامل سراًّ وعلانيةً بما يحقق بل ويدعم إسرائيل فى المنطقة. وإذا كنا لا ننكر ضعف النظام الرسمى العربى فى الوقت الراهن، فإنه علينا بالمقابل عدم تجاهل ما يحاول القيام لأجل الابقاء عن القضية الفلسطينية حيّة فى ظل أوضاع تشى بتقسيم معظم الدول العربية، وإدخالها فى حروب أهلية طويلة المدى، وعلى ما نحن عليه من ضعف وانكسار وتراجع وفتن إلا أن الجماعات الإرهابية ومن يدعمها ويؤويها من الغرب والشرق، لم يستطيعا ان يحلا بديلين على النظام الرسمى العربي، ورغم أهمية هذه القضية، فإن ذلك النظام مطالب اليوم باتخاذ مواقف أكثر صلابة وحزما، فيها حمايته، قبل أن تكون حماية لفلسطين وشعبها المقاوم، الذى يصنع الحدث على أوسع نطاق، رغم التداخل على مستوى التنظير والشعارات بين برامج بعض أحزابه الدينية و بين أجندات الجماعات الإرهابية، ودول الفضاء الإسلامى المعادى للعرب. على خلفيَّة كل هذا يأتى نقل سفارة الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى القدس غدا، والسؤال هنا: كيف للجماعات الإرهابية، التى تدعى أنها تقاتل الأنظمة العربية لعدم تطبيقها الشريعة والعمل لأجل قيام دولة الإسلام وتحرير فلسطين، أن تواصل أعمالها الإرهابية داخل الدول العربية، ولا يظهر منها أى رد تجاه نقل السفارة الأمريكية؟. بغض النظر عن الإجابة، فالمؤكد أن الجماعات الإرهابية، التى قد تبدو متماثلة فى نظرتها للصراع من أجل فلسطين مع مشروع الدولة الإسرائيلية القائم على الدين أساسا، ومع نظرة كثير من المسلمين من خلال بعدهم الإيماني، فإنها فى جرائمها تخدم المشروع الإسرائيلى الأمريكى فى المنطقة، وتفرغ القضية من بعدها التحرري، لتجعل منها قضية خاصة بجماعة من المسلمين، تابعة للأعداء، مع أنها ترفع شعار تحرير القدس، والهدف، كما هو معروف تجنيد الشباب، حتى إذا التحقوا بها، بنوايا طيبة وبحب عميق لفلسطين، وبشوق كبير للقدس، ارسلتهم للقتال فى مناطق أخرى قريبة أو بعيدة من فلسطين، وبهم تعمل تلك الجماعات الإرهابية جاهدة على تعميم ثقافة العنف، فى مشهد ضبابي، يوسع من دائرة الشك، ويثير الظنون والشبهات حول اليقينيات، ومنها: من يحرر القدسوفلسطين غدا؟.. بالتأكيد لن تكون الجماعات الإرهابية، وإنما من تحدث عنهم الزعيم الراحل ياسر عرفات.. أتذكرونهم؟!. لمزيد من مقالات ◀ خالد عمر بن ققه