كل كتابة أدبية مغامرة, خاصةً إن كان يطمح صاحبها للإتيان بشيء جديد. فليس كل مرة تخرج السنارة بصيد لا بأس به؛ قد تكون السمكة صغيرة, أو قد تخرج السنارة ببعض العشب, بل قد تكون «الغمزة» القوية للسنارة من تحت الماء والثقلُ الواعدُ فردة مركوب. لذلك فرحت, كصياد عجوز مرهق, بعد أن أتممت قراءة رواية «إفلات الأصابع» للأديب الشاب الناضج محمد خير, الصادرة عن دار «الكتب خان» 2018, ثم قرأتها مرة ثانية فتأكد اندهاشى وتعمّق إعجابى بها. والأسباب كثيرة: القالب الجديد الذى يتركب من فصلين كنغمتين موسيقيتين, الأولى حادة عالية, كنغمة «الجواب» فى اللحن, تملؤنا بالتساؤلات, والثانية, كنغمة «القرار» العميقة, تجيبنا عن كل شيء؛ أو باستعارة أخري, من فن النسج, يعطينا الفصل الأول خيوط الغزل متوازية ومنفصلة, ثم يأتى الفصل الثانى ليُضفّر تلك الخيوط وينسجها معاً. وبلغة العمارة, الفصل الأول يتمدد أفقياً فى 14 فصلا ثانويا يضع الأساسات للبناء الروائي, بينما الفصل الثانى يغلب عليه التمدد الرأسى المتصاعد نحو ذروة, بعد أن أصبحت كل الحكايات التى حسبناها فى الفصل الأول, فصل الغموض والتساؤلات, منفصلة أو تكاد, كمجموعة من القصص القصيرة متجاورة فى إهاب روائي- أقول يتكشف لنا فى الفصل الثاني, وبشكل متصاعد, أن كل تلك الحكايا, بحيلة من شهرزاد, هى فى الحقيقة حكاية واحدة؛ وتلتقى شخصياتها التى حسبناها فى عوالم متباعدة، وتتلامس بلمسات بارعة نكاد لا نلحظها من قبل الكاتب/الساحر, ليعرف القارئ فى النهاية حل الأحجية الروائية المرهفة المشوقة التى قدمها لنا محمد خير, فى مزج بديع مسْكر للمتعة والألم: فالحكاية مؤلمة, وفن الحكى ممتع, وبأساليب غير مسبوقة. هذا من حيث البناء. أما الصياغة أو اللغة, فلا كلمة واحدة زائدة. فقد استفاد محمد خير الروائى هنا من تجربته فى كتابة الشعر, ليقول الكثير فى كلمات قليلة. والواقع أن تعدد الحكايات الثانوية المكونة للحكاية الأم فى هذا العمل, بما تضمه من شخصيات, كان من الممكن فى يد كاتب غير خبير بفن الاختزال الشعرى أن يصل بعدد صفحات هذه الرواية إلى ألف صفحة وصفحة, بدلاً من مائة وثمانين هى العدد الفعلى لصفحات العمل. وشيجة أخرى بين هذه الرواية وبين الشعر كجوهر, أن كثيراً من حكاياتها, أو مقاطع منها, تقترب من جو الرؤيا. والحق أن بطل الحكاية نائم كبير؛ حتى فى الصحو يسير كالنائم, فهو منقاد ل «بحر», الشخصية الفعالة فى الرواية, والذى هو إعادة صياغة غير دينية, بل بعيدة تماماً عن التدين, لشخصية سيدنا الخضر الذى يقود النبى موسى فى القرآن الكريم فى رحلة اكتشاف وتكشُّف. وفى نهاية الرواية يتضح لنا, ولبطلها سيف, أن «بحر» لا وجود حقيقياً له, بل رؤيا هو الآخر؛ نوع من الإلهام الفنى يقود «سيف», الكاتب والصحفى الذى نراه فى الرواية وقد هزمته الحياة, يقوده خلال مجموعة من الرؤى أو الحكايات فيما يظنه سيف, ونظنه نحن حتى قبيل السطور الأخيرة, نوعاً من التحقيق الصحفى على امتداد الوطن, يقوم به بحر لحساب نفسه, ويتبعه فيه «سيف» ليقدم تقريراً عنه لحساب مجلته بعد توقف طويل من العمل بسبب الاكتئاب والهزيمة الروحية. ويتضح لنا فى النهاية, ولسيف نفسه, أنه طوال الطريق كان يحلم, حلماً إبداعياً دوّنه فى النهاية فى أوراق تكاد تكون هى الرواية نفسها التى أكتب عنها بحماسة الآن, وأرشحها لأن تكون بين يديك, لأن «سيف» بطل الرواية, حين تخلى عن حبيبته وأفلتتها أصابعه لتضيع منه فى الزحام, قبض فى أوراقه على عِرق الذهب النادر الثمين الذى يلهث خلفه الغائصون فى باطن الأرض ليصعدوا إلينا بعمل مدهش. لمزيد من مقالات بهاء جاهين