«فوت علينا بكرة».. تطورت هذه العبارة الشهيرة مع دخول الكمبيوتر الدواوين الحكومية ، لتصبح: «السستم واقع» مجسدة الشكل الرقمى للبيروقراطية التى تفشت منذ إنشاء ديوان الموظفين بمصر عام 1951 واستعصت على كل محاولات مواجهتها على مدى عقود، بدءاً من الثورة الإدارية التى كانت شعاراتها معلقة على جدران المصالح الحكومية فى ثمانينيات القرن الماضى ومرورا بالمراكز النموذجية للخدمات، وإنتهاء بدخول الحاسب الآلى للمكاتب الحكومية!. وبعد أن كان ديوان الموظفين يضم عددا محدودا من العاملين بالحكومة، أصبح اليوم الجهاز الإدارى للدولة يضم نحو 6 ملايين موظف وهو عددد كبير كان من المتوقع أن يوفر خدمات ممتازة للمتعاملين معه، ولكن ذلك لم يتحقق، بعد أن أعيت البيروقراطية العقيمة المواطنين وعبروا عن ذلك بالشكاوى أحيانا وبالسخرية والنكتة أحيانا أخرى، فمعظمنا يذكر بشخصية «عبد الروتين» الكاريكاتورية التى أبدعها مصطفى حسين وأحمد رجب. ولا يزال المواطنون يعانون الأمرين عند إجراء أى معاملة رسمية بدءاً من استخراج شهادة الميلاد وحتى استخراج شهادة الوفاة وما بينهما بعدد أشكال التعامل مع الورق الرسمى، ففى جميع الأحوال هناك إجراءات لا تنتهى وتشابك لا مثيل له بين مختلف المصالح الحكومية، ومتاعب قد تلجئ البعض إلى غض النظر عن كل ما يسمعه بالعالم عن الحكومات الذكية. الروتين يفضى إلى الرشوة التى هى مقدمة كل فساد، ويسهم فى ذلك تعدد القوانين وتراكم الإجراءات البيروقراطية وبطء النظام الإدارى. ومواجهة للفساد لن تؤتى ثمارها ما دامت جذور المشكلة لم تحل. ربما يستوجب الحل تعديل بعض القوانين أو تغيير القوانين المتعلقة بالعمل والاستثمار، وإعادة النظر فى بعض اللوائح التى تعمل على تباطؤ العمل، وتغليظ العقوبات على الفاسدين، وتفعيل دور الأجهزة الرقابية، وإنشاء دوائر تختص بقضايا الفساد، وفى الوقت نفسه معالجة أوجه القصور لدى بعض فئات الموظفين التى لا تكفى رواتبهم حد الكفاف. هذه خطوات ضرورية قبل ان نطرق أبواب الحكومة الذكية لنعيش عصرنا، حيث تتنافس اليوم الحكومات على إرضاء المواطن وتيسير الإجراءات الخاصة بتعاملاته مع الجهاز الحكومى لقضاء مصلحة أو الحصول على خدمة، فقد تطور الأمر من شعار «ارضاء المتعاملين» الى «إسعاد المتعاملين» هذا ليس فقط (فى أوروبا والدول المتقدمة) وإنما أيضا فى دول العالم الثالث، إذا كانت العولمة قد أبقت هذا المصطلح! فقد تحولت الحكومة من الحالة البيروقراطية التى، يدوخ فى دهاليزها المواطن السبع دوخات لإنهاء مصلحة تخصه وتتطلب سبعة توقيعات أو أختام، إلى حالة الحكومة الصديقة التى تسعى إلى راحة المواطن لدرجة أنه يقضى مصلحته فى سبع ثوان، وبعد أن كان يذهب هو إلى الديوان الحكومى للحصول على الخدمة، أصبحت الخدمة تأتى إليه بلمسة زر عبر شاشة الكمبيوتر أو الهاتف المحمول. هذا ما تتيحه بوابات الحكومات الذكية فى عدة بلدان، لا نقول أجنبية وإنما عربية ومنها الإمارات، حيث شهدت منذ سنوات هذه التجربة، فأثناء زيارتى لصديق صحفى مواطن بإحدى الدول الخليج العربى، تلقى رسالة عبر الهاتف المحمول، وقال مبتسما وصلنى تكليف بالسفر للخارج بعد ثلاثة أيام، ثم رجع بمقعده للخلف وعدل وضع الغترة والعقال والتقط لنفسه صورة سلفى، ولكنى اكتشفت انها ليس كذلك وانما كانت بهدف تجديد جواز السفر، ثم فتح الهاتف النقال على تطبيق وزارة الداخلية واختار «خدمة تجديد جواز السفر» وارسل الصورة، وبعد 20 دقيقة وصلته رسالة بأن «المعاملة قيد التنفيذ»، ثم رسالة أخرى بأن الجواز «سيصلك بعد 24 ساعة». هذه واحدة من أكثر من 100خدمة ذكية تقدمها حكومة الإمارات للمواطنين والمقيمين عبر الهاتف المحمول، منذ عدة سنوات بمعظم الوزارات والهيئات الحكومية، وعلى سبيل المثال بلغ عدد خدمات المرور التى تقدمها وزارة الداخلية على الهواتف الذكية 13 خدمة، تتضمن الاستفسار عن المخالفات المرورية، والسيارات المسجلة واللوحات المحجوزة . هذا الانجاز قابل للتطبيق فى أى دولة، اذا توافرت الإرادة، لذلك تفاءلنا خيرا بتفعيل مذكرة التفاهم بين مصر والإمارات بشأن التعاون المشترك لتحسين مجال الخدمات الحكومية خلال استقبال السيد رئيس مجلس الوزراء، لوفد إماراتى يوم 17 ابريل الماضى، والاتفاق على عقد مؤتمر قومى بمصر لمنح جائزة التميز المؤسسى من خلال المسابقة التى يشارك فيها مختلف المؤسسات والمصالح الحكومية. نتمنى أن يكون ذلك بداية لثورة عميقة فى الجهاز الإدارى تسفر عن تقليل استخدام الورق الرسمى وتتمخض عنها حكومة ذكية صديقة للناس والبيئة!. لمزيد من مقالات د. محمد يونس