تفاصيل عملية التصويت في 55 دائرة بإعادة المرحلة الثانية لانتخابات النواب    ببلاغات من العمال| الكشف عن تلاعب صاحب مصنع في أوزان أنابيب البوتاجاز    أسعار اللحوم في أسوان اليوم 17 ديسمبر 2025    أسعار السمك في أسوان اليوم 17 ديسمبر 2025    تعرف علي سعر صرف الدولار اليوم الأربعاء 17 ديسمبر 2025    هزة أرضية بقوة 5 درجات تضرب ألاسكا والسلطات الأمريكية تتابع الوضع    هل نفذت إسرائيل استحقاقات المرحلة الأولى كي تبدأ " الثانية"؟    موعد مباراة الأهلي وسيراميكا في كأس عاصمة مصر    رحلة استعادة عرش أفريقيا.. منتخب مصر يطير اليوم إلى أغادير بطائرة خاصة    ملثمون يلقون «مية نار» على 3 طلاب بجامعة بنها    طقس اليوم: معتدل الحرارة نهارا بارد ليلا على أغلب الأنحاء.. والعظمى بالقاهرة 20    مصرع شخص بطلق ناري في إدفو    مواعيد قطارات المتجهة من أسوان إلى القاهرة اليوم 17 ديسمبر 2025    صدمة.. ضحايا غرق مركب الهجرة المصريين "أطفال".. نجا منهم 2 من أصل 27    طرح الحلقة الأولى من الموسم الثاني لمسلسل Fallout    القضاء الفرنسي يطالب بغرامة تاريخية على لافارج بتهمة تمويل الإرهاب بسوريا    واشنطن: لن نسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية    صحة أسيوط تنفذ 40 ألف زيارة وسحب 21 ألف عينة مياه لتوفير بيئة آمنة    اليوم انطلاق جولة الإعادة للمرحلة الثانية لانتخابات مجلس النواب في 13 محافظة    البريد المصري يستضيف ورشة عمل "نظم وأدوات تكنولوجيا المعلومات"    واشنطن تهدد الاتحاد الأوروبي بالرد على قيود الشركات الأمريكية    في غياب مرموش، مانشستر سيتي يواجه برينتفورد في ربع نهائي كأس الرابطة الليلة    محمد رمضان: أمتلك أدلة تثبت أحقيتي بلقب «نمبر وان»    محمد علي السيد يكتب: عن العشاق.. سألوني؟!    حسن مصطفى: منتخب مصر قادر على التتويج ببطولة أمم إفريقيا    إصابة 7 أشخاص في حادث تصادم بحلوان    حبس المتهمين باستغلال نادى صحى لممارسة الرذيلة بالقاهرة    إنطلاق المهرجان الشبابي الرياضي للتوعية بالأنشطة المالية غير المصرفية    سيد محمود ل«الشروق»: رواية «عسل السنيورة» تدافع عن الحداثة وتضيء مناطق معتمة في تاريخنا    «ترامب» يحذر فنزويلا من صدمة اقتصادية وسياسية غير مسبوقة    إعلان أسماء الفائزين بجائزة مسابقة نجيب محفوظ للرواية في مصر والعالم العربي لعام 2025    رئيس محكمة النقض يترأس لجنة المناقشة والحكم على رسالة دكتوراه بحقوق المنصورة    حملة تشويه الإخوان وربطها بغزة .. ناشطون يكشفون تسريبا للباز :"قولوا إنهم أخدوا مساعدات غزة"    أحمد مراد: لم نتعدى على شخصية "أم كلثوم" .. وجمعنا معلومات عنها في عام    أحمد مراد عن فيلم «الست»: إحنا بنعمل أنسنة لأم كلثوم وده إحنا مطالبين بيه    نصائح تساعدك في التخلص من التوتر وتحسن المزاج    مصطفى عثمان حكما لمباراة البنك الأهلي ومودرن سبورت في كأس عاصمة مصر    انفجارات في كييف وإعلان حالة إنذار جوي    «كان مجرد حادث» لجعفر بناهي في القائمة المختصرة لأوسكار أفضل فيلم دولي    تشيلسي يتأهل لنصف نهائي كأس الرابطة الإنجليزية    عمر كمال وأحمد بيكام يشاركان أحمد عبد القادر حفل زفافه بالدقهلية.. صور    أخبار × 24 ساعة.. رئيس الوزراء: الحكومة هدفها خفض الدين العام والخارجى    ترامب يعلن أنه سيوجه خطابا هاما للشعب الأمريكي مساء غد الأربعاء    جزار يقتل عامل طعنا بسلاح أبيض لخلافات بينهما فى بولاق الدكرور    مسؤول إيرانى سابق من داخل السجن: بإمكان الشعب إنهاء الدولة الدينية في إيران    ضياء رشوان: ترامب غاضب من نتنياهو ويصفه ب المنبوذ    اللاعب يتدرب منفردًا.. أزمة بين أحمد حمدي ومدرب الزمالك    "الصحة": بروتوكول جديد يضمن استدامة تمويل مبادرة القضاء على قوائم الانتظار لمدة 3 سنوات    نائب وزير الصحة: الولادة القيصرية غير المبررة خطر على الأم والطفل    شيخ الأزهر يستقبل مدير كلية الدفاع الوطني ويتفقان على تعزيز التعاون المشترك    ما حكم من يتسبب في قطيعة صلة الرحم؟.. "الإفتاء" تجيب    مجلس النواب 2025.. محافظ كفر الشيخ يتابع جاهزية اللجان الانتخابية    السكرتير العام لبني سويف يتابع الموقف التنفيذي لمشروعات الخطة الاستثمارية    خالد الجندي: لن ندخل الجنة بأعمالنا    الندوة الدولية الثانية للإفتاء تدين التهجير القسري وتوضِّح سُبل النصرة الشرعية والإنسانية    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 16ديسمبر 2025 فى المنيا    من المنزل إلى المستشفى.. خريطة التعامل الصحي مع أعراض إنفلونزا h1n1    عضو بالأزهر: الإنترنت مليء بمعلومات غير موثوقة عن الدين والحلال والحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية
«مملكة الفراشة»
نشر في الأهرام اليومي يوم 27 - 04 - 2018

هذه هى رواية واسينى الأعرج التى أصدرها بعد أن صدرت روايته السابقة «أصابع لوليتا» عن دار الآداب ليستكمل بها رؤيته الخاصة بمواجهة الإرهاب الدينى الذى انفجر فى وطنه الجزائر، وانتقل منه إلى بقية الأقطار العربية، ناشرًا الخراب والدمار، والفارق الأساسى بين «مملكة الفراشة» و«أصابع لوليتا»، أن أحداث الثانية تدور ما بين الأقطار الأوروبية؛ حيث يقطن البطل المهاجر فى فرنسا التى لا يتحرك منها إلا إلى ألمانيا أو غيرها من الدول الأوروبية، بينما تدور أحداث رواية «مملكة الفراشة» فى الجزائر بوجهٍ عام، وفى العاصمة الجزائرية بوجه خاص، ومن ثَم فهى تتحدث عن فترةٍ زمنيةٍ تقع فى الجزائر نفسها بعد أن انتهت الحرب البشعة التى أوْدَتْ بأرواح الآلاف من الجزائريين فى حربٍ أهليةٍ، دارت رحاها ما بين مجموعات الإسلام السياسى والحكومة الجزائرية. وكان الضحية فى هذه الحرب أبناء وبنات الشعب الجزائرى الذى أنهكته الحرب الأهلية هذه إنهاكًا لا نظير له على امتداد العالم العربى والإسلامى.
............................
أما الزمن الروائى ل «مملكة الفراشة»، فهو الزمن الذى يعقب انتهاء حرب الإرهاب الدينى فى الجزائر؛ حيث بدأت مرحلة ما بعد الحرب التى لم تتخلص تمامًا من آثار الحرب المدمرة وتأثيراتها التى انتقلت بالجزائر من حرب مُعلنة إلى حرب أخرى سرِّية وصامتة. هذه الحرب الأخيرة هى التى دفعت واسينى الأعرج إلى أن يستهلَّ روايته بتقديمٍ نقرأ فيه ما يلي: «الحرب ثلاثة أنواع: حرب مُعلنة ومُميتة تحرق وتبيد على مرأى الجميع، نهايتها خرابٌ كُلِّى وأبطال وطنيون، وقبور على مرمى البصر، وحربٌ أهلية تحرق الأخضر واليابس يَكيدُ فيها الأخ لأخيه ولا يرتاح إلا إذا سرق منه بيته وحياته وحبه وأسكن فى قلبه حقدًا لا يُمحَى، سيوقظه قتلة قادمون يشيدون به خرابهم السِّرى، وحرب أخيرة هى الحرب الصامتة التى لا أحد يستطيعُ توصيفها؛ لأنها من غير ضجيجٍ ولا ملامح، وعمياء، كلما لامسناها غرقنا فى بياض هو ما بين العدم والكفن، فالحروب أيًّا كان نوعها ليست فقط هى ما يحرق حاضرنا، ولكنها أيضًا ما يستمر فينا من رماد حتى بعد خمود حرائق الموت فى ظل ظُلمةٍ عربيةٍ تتسعُ بسرعة الدهشة والخوف».
والحق أننا إذا أردنا أن نحدد تاريخًا زمنيًّا للحرب الدائرة فى «مملكة الفراشة»، قلنا إن أحداثها تدور فى الحرب الصامتة التى ظلت مستمرة بين الجزائريين، حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية التى حرقت الأخضر واليابس، والتى قتل فيها الأخ أخاه، وبذرتْ فى القلوب أحقادًا لا تُمحى، ظلت مُشتعلة على امتداد عشر سنوات. وعندما انتهت الحرب الأهلية عَلنًا، فمن الواضح أن الحرب نفسها لم تَنْتَهِ، فقد استمرت على نحوٍ صامتٍ، دون ضجيجٍ ولا ملامح، وإنْ كان لها مَلمحها الخاص الذى يتضافر فيه الفساد السياسى الاجتماعى مع الإرهاب الدينى فى الوقت نفسه كما لو كان الاثنان وجهين لعملةٍ واحدةٍ تجمع ما بين العدم والكفن.
هذه الحرب الصامتة هى المدى الزمنى الجزائرى الذى تدور فيه أحداث رواية «مملكة الفراشة»، ومن الواضح أن العنوان نفسه ينطوى على رمزيته الخاصة، ف «مملكة الفراشة» تشير إلى معانٍ متعددة منها الهشاشة، ومنها أنها مملكة لا يمكن أن تَشعرَ فيها بشيء ملموسٍ تمسك به أو تحسه أو تقبض عليه، ومنها أن « فى مملكة الفراشة الحب مثل الغيب الأكبر: يمهل ولا يهمل،... وكل شيء يتضاءل إلا الحياة، كل يوم تزداد... قوة وشراسة». وليست مملكة الفراشة مرتبطة بالحب فحسب، فالحب نفسه له لوازمه الدالة التى سوف نتحدث عنها فيما بعد، ومنها أيضًا أن مملكة الفراشة توازى ممالك أخرى مثل: «مملكة مارك زوكيربيرج الزرقاء...، جميلة، لكنها ليست فيها الحياة كلها، بل يمكن أن يصبح إدمانها خطرًا». بعبارة أخرى «مملكة الفراشة» أشبه بالعالم الافتراضى الذى نراه على صفحات الفيس بوك؛ حيث نحيا مع الآخرين حياة افتراضية، هذه الحياة الافتراضية ليست سيئة بالقطع خصوصًا فى عالمٍ مُفعمٍ بالموت والدم والأشلاء، ومعطوب فى الصميم. هذا العالم القاسى تصبح فيه الحياة الافتراضية على صفحة الفيس بوك مهربًا جميلًا يشعرنا بأننا ما زلنا على قيد الحياة، وأن قابليتنا للحلم لم تَمُتْ، ولذلك تقول البطلة لأبيها عندما يحذِّرها من إدمان الحياة الافتراضية على الفيس بوك، مؤكدًا ضرورة أن تكون الحياة متوازنة بين حياة ملموسة نعيشها بالفعل وفى الواقع، وحياة أخرى نصنعها بخيالاتنا وفى عالم افتراضى ليس واقعيًّا تمامًا وإنما هو عالم سرابى مُهَفْهِف كالنَّسيم مثل أجنحة الفراشات الهَشَّة. وهو الأمر الذى ترفضه الابنة التى تميل إلى الحلم، مؤكدة لأبيها: «الحياة الافتراضية... ليست سيئة أمام حياة مُعطَّرة بالموت والدم والأشلاء، ومعطوبة فى الصميم، جميلة لأنها تشعرنى بأننا ما زلنا على قيد الحياة، وأن قابليتنا للحلم لم تَمُتْ، الكثير من الحيوات... تمر بالضرورة عبر القراءة وعبر هذه العوالم السهلة والجميلة». ولكن هذه العوالم السهلة والجميلة ليس لها وجود محسوس يمكن أن يكون ملاذًا حقيقيًّا يعيدنا إلى حياة الواقع الخشن القاسى بكل مآسيه. شأن مملكة الفراشة فى ذلك شأن المملكة الزرقاء على صفحة الفيس بوك لا تسعف عند الكارثة، ولا تقدم حلًّا عمليًّا عند غياب النور فى الظلمة الدامسة، أو انتصار الشر على الخير فى عالم الحرب الصامتة الذى تتصارع فيه قوى ليس فى مُكْنة الإنسان العادى أو المواطن البسيط أن يتصدى لها أو أن يقاومها مقاومة الفرسان الشجعان أو الأبطال الأسطوريين الذين تتحدث عنهم كتب التاريخ أو السير الشعبية.
إن «مملكة الفراشة» – باختصار- هى العالم الوهمى الهش الذى يمكن أن تُحاصر فيه المرأة عندما تقع فريسة لخيوط الحب التى تشبه الشِّراك المنصوبة على الصفحة الزرقاء فى الفيس بوك، وهذا هو ما وقعت فيه «ياما» وأسرتها على السواء، عندما صدَّقوا جميعًا أن الحرب الأهلية المُعلنة باسم الدين قد انتهت فى الجزائر، وأن الجزائر قد تحوَّلت إلى واحةٍ من الأمان، ولكن لم يكن هذا سوى وَهْمٌ كتلك الأوهام التى صدَّقها كثيرون، فانتهت حياتهم بكوارث متنوعة الأشكال والألوان، لكنها تظل كوارث فى النهاية، تصنعها الحرب الصامتة التى لا تبدو حربًا من حيث الظاهر، ولكنها تظل حربًا من حيث الباطن الذى لا يتحكم فى حياة الناس فيه سوى الفساد السياسى والتعصب الدينى.
هكذا تتحرك المأساة فى رواية «مملكة الفراشة. البطلة «ياما» شابة جزائرية درست علوم الصيدلة وافتتح لها والدها صيدلية، فأصبحت «فارماسيانة» مَحبَّةً كل الحب لوالدها الذى يعمل فى أكبر شركات الأدوية فى الجزائر. لكن «ياما» شابة من نوع خاص، فهى تعشق القراءة، وربما كان ذلك بتشجيع من والدتها ناظرة المدرسة الفرنسية التى أصابها الإحباط والاكتئاب نتيجة الأحداث التى مرت بها الجزائر، ومرت بها هى شخصيًّا فى علاقتها الخاصة بزوجها التى اكتشفت أنه يخونها. وربما كان للواقع الوطنى وللواقع العائلى تأثيرهما غير المباشر فى شخصية «ياما» التى استغرقها تمامًا حب الأدب والفنون، هربًا من قسوة واقع أكبر من قدرتها على الاحتمال، فأصبحت عازفة فلوت فى فرقة ديبو چاز، واقعة فى غرام مؤسس الفرقة داود (ديف)، وفى الوقت نفسه غارقة فى عشقها للقراءة إلى الدرجة التى جعلتها تعيش فى دنيا الأدب وعوالمه الخيالية أكثر مما تعيش فى دنيا الواقع، ولذلك تحوَّلت الحياة فى جانب منها إلى أعمال أدبية. وهذا هو ما جعلها تُطلق أسماء الشخصيات الروائية الإبداعية على الأشخاص الذين يعيشون حولها، فأبوها «زبير» أصبح زوربا اليونانى الرجل المحب للحياة، وأمها أصبحت فرچينيا التى تُذكرها بفرچينيا وولف، وحبيبها فادى أصبح فاوست... وَهَلُمَّ جَرًّا. وهو الأمر الذى فتح أبواب الرواية على حَيلٍ فنية وموازيات رمزية كثيرة جعلت من أسماء الشخصيات إشارات إلى متناصات أدبية، وذلك على نحوٍ أصبحت معه الرواية شبكة لعملية تناص كُلية تتخللها فى كل حين تناصات جزئية أو تضمينات أدبية، ولذلك يمكن أن يرتبك القارئ أثناء قراءة الرواية عندما لا يميز بين الأسماء الأصلية والأسماء الأدبية، أو عندما تتكاثر التضمينات بأكثر من قدرة القارئ على فك شفرات الشبكة الكثيفة من التضمينات فى الرواية.
وأسرة «ياما» أسرة جزائرية تنتسب إلى الطبقة الوسطى، مكوَّنة من الأب زبير (زوربا) الذى يعمل خبيرًا فى إحدى الشركات الكبرى للأدوية فى الدولة، بعد أن اختار العمل فى وطنه الجزائر، مُؤثِرًا الاستجابة إلى حِسِّه الوطنى على حساب المكسب المادى الذى يُمكن أن تقدمه الدول المتقدمة فى أوروبا أو الولايات المتحدة، ولكنه يصطدم بالفساد الجارى فى تجارة الدواء وتصنيعه فى الجزائر، فتكون النتيجة اغتياله، والبطلة التى تسرد لنا الرواية بضمير المتكلم هى «ياما» الجزائرية، أما الأم فهى «فريجة» التى أصبحت فى تسمية الابنة «فرچينيا» أو «فرچى» اختصارًا، ومعها أختها التوءم مايا (كوزيت) التى تتعارك مع الأخ ريان أو (رايان)، فتترك له البيت والبلاد كلها، مهاجرة إلى كندا رافضة حتى العودة إلى الجزائر لحضور جنازة أبيها ثم أمها.
وتمضى أحداث الرواية التى تقصها علينا «ياما» التى تحترف مهنة الصيدلة تأثرًا بأبيها الذى تحبه كل الحب، الذى تُتابع معاركه مع ميليشيات الفساد الحكومى إلى أن تصل هذه المعارك إلى النقطة الحاسمة التى كان لابد من أن تنتهى بقتل الأب برصاص قناصٍ استأجره أصحاب المصالح كى يُنهى حياة «زبير» (زوربا) ذلك الرجل الذى أخذ على عاتقه كشف عصابات الفساد والاتجار بأدوية الشعب الجزائرى البائس. وتقع «ياما» فى الحب للمرة الأولى مع شاب يماثلها فى الميل إلى القراءة والانجذاب إلى العوالم الخيالية التى يصوغها الإبداع الكتابى أدبًا، والإبداع الفنى موسيقى وغناءً، ولكنه يموت ويتركها وحيدة بعد أن تنتهى الحرب الأهلية، فلا تفعل شيئًا سوى الإبقاء على ذكرى الحبيب الأول «داود» - أو «ديف» كما سمته - إلى أن تأتى المرحلة الثانية حيث تشتعل الحرب الصامتة التى تدفع «ياما» إلى بديل لحبيبها الشهيد، فتتعرف عبر صفحات الفيس بوك على «فادى»، وهو كاتبٌ ومخرجٌ مسرحى مرموق، اضطر إلى مغادرة الجزائر فى الحرب الأهلية الأولى المُعلنة، فرارًا من المذابح الدامية التى استمرت عشر سنوات من القتل والذبح الذى أشاعته الجماعات المُتأسلمة المُعارِضة بعد أن حيل بينها وتولِّى الحُكم فى الجزائر، ورغم انقضاء هذه الحرب، وإعلان الخلاص منها ظاهريًّا على الأقل، فإنه يظل خارج الجزائر مُؤثِرًا المنفى الاختيارى فى إحدى العواصم الأوروبية، بعيدًا عن الحرب المُميتة وعن الحرب الصامتة فى الوقت نفسه. وما أن تتعرف عليه «ياما» إلا وتُسمِّيه «فاوست» ضمن سياق لعبة التسميات التى كانت تلجأ إليها باستمرار مُستغلة قراءاتها، ونقع معها نحن القراء فى شباك هذه اللعبة، فنرى أن «فاوست» يوازى البطل فى مسرحية چوته الشهيرة التى تتحدث عن وقوع البطل «فاوست» فى حبائل الشيطان «مفيستوفيليس»، الأمر الذى ينتهى به إلى أن يخسر حبيبته مارجريت التى لم تستطع أن تُخلِّصه من حبائل الشيطان. وهنا تتحول الرواية لكى تصبح نوعًا من الموازاة النَّصية لمسرحية فاوست لچوته، ولكن على نحو يجعل من «فادى» موازيًا لفاوست الذى يقع فى حبائل الشيطان، والشيطان هو السُّلطة السياسية فى الجزائر التى تطلب وُدَّ فادى، مُغرية إياه بالرجوع إلى الجزائر، وعرض مسرحيته عن لوركا، أو «لعنة غرناطة» فيها، على أن تكون هذه العودة بداية لعودة المنفيين السياسيين والهاربين من الفساد السياسى المُتحالف مع التعصب الدينى، والمساعدة فى بناء جزائر جديدة على مستوى الرغبة لا الواقع. وبالفعل يقع «فادى» أو فاوست فى الفخ، فيقرر العودة مُضحِّيًا بكل النجاح الذى حققه فى المنفى الاختيارى الأوروبى فى مقابل أن تُعرض مسرحيته عن مقتل لوركا فى دار الأوبرا الجزائرية، ويحدث حوار بينه وبين «ياما» التى تحذره من الشِّرك الذى تنسجه له السُّلطة فى الجزائر التى لم تكن تسعى إلا إلى تجميل وجهها التسلُّطى الاستبدادى. ولكن لا يفلح التحذير، ويعود فاوست مع مسرحيته التى تُعرض فى دار الأوبرا فى العاصمة الجزائر، ويُقابل مُقابلة العظماء، ويحتفِى به الجميع أملًا أو حلمًا بعهد جديد. ويبدو الأمر كما لو كانت السُّلطة تستغل حلم هذه العودة لكى تشترى به سُمْعتها من جديد، فتستقبل فاوست استقبال الأبطال، وتُعْرض مسرحيته على الأوبرا وتلقى نجاحًا باهرًا.
ولكن بعد انتهاء العرض تقابل «ياما» حبيبها الذى كتبت له 777 رسالة لم ترسلها له على الفيس بوك، وإنما خطتها بيدها وجمعتها فى مجلد قررت أن تعطيه له بعد أن ينجح فى تقديم مسرحيته المعروضة فى دار الأوبرا، ولكنها – ويا للخيبة غير المتوقعة - تكتشف أن المدعو «فاوست» الذى كانت تحاوره وتعلن حبَّه على صفحات الفيس بوك ليس هو «فادى» الذى رأته، والذى أعلن لها أنه لا يستخدم الفيس بوك، والذى قدَّم لها عنوان الإيميل الخاص به؛ لأنه لا يتراسل مع الأصدقاء إلا عن طريقه، وتعرف «ياما» من حوارها معه أن قريبًا له هو الذى يخاطب المعجبين والمعجبات على الصفحة الخاصة به فى الفيس بوك، وأن هذا القريب هو الذى كان يحاورها وتحاوره على امتداد السنوات التى كتبت فيها رسائلها التى قاربت الألف (777). ولا تقضى الصدمة على «ياما» التى تكاثرت عليها الصدمات، وانطبق عليها ما قاله المتنبي:
رَمانى الدّهرُ بالأرزاءِ حتى فُؤادى فى غِشاءٍ مِنْ نِبالِ
فَصِرْتُ إذا أصابَتْنى سِهامٌ تكَسّرَتِ النِّصالُ على النِّصالِ
فتعود إلى بيتها بعد أن أزاح إصرارها على الاستمرار فى الحياة «مملكة الفراشة» الوهمية التى عاشت فيها سنوات، مُدْرِكة أخيرًا أن الواقع أكثر قسوة من الأحلام والخيالات، وأشد وطأة من صفحة زوكيربيرج الزرقاء، وتدرك خيبة أحلامها فى فاوست الذى أسلم نفسه للشيطان، والذى وضعها موضع الاختبار الخطر، فتقرر الاستمرار فى الحياة، وأن تتخلص من «لعنة غرناطة» وهو عنوان المسرحية التى كتبها «فادى» عن مصرع الشاعر الإسبانى فيديريكو جارثيا لوركاFederico García Lorca)) الذى قتله عسكر فرانكو المستبد. وتمضى «ياما» وحيدة فى الطريق بعد فراغها من مشاهدة المسرحية متذكرة كلمات والدها «زبير» (زوربا)، وهو ينبهها لمخاطر مملكة زوكيربيرج (مخترع الفيس بوك) قائلًا: «خلِّ الحياة متوازنة، بين حياة ملموسة وحياة نصنعها بخيالاتنا، الكثير من اللحظات ليست طبيعية فى هذه المملكة». هكذا تدرك أخيرًا أن مملكة زوكيربيرج ليست سوى «مملكة الفراشة»، فتحرق رسائلها إلى فاوست، مُدركة - أخيرًا - أن كل شيء اندثر بما فى ذلك غبار جسد الفراشة الملون، وتمضى فى الطريق تحت المطر قائلة لنفسها: «كنتُ فراشة بجُرحٍ صغيرٍ يكاد لا يظهر، غمرتنى الألوان الكثيرة من كل الجوانب، كانت تلفنى وتغطينى مثل ستائر من نور... غرقت فى اللون الأزرق الذى يميل نحو الأخضر والبنفسجى الذى كان يأتى من مزيج الألوان التى غيَّرها الضباب الممزوج بالمطر». تتناهى إلى سمعها أصوات حبيبها الأول «يأتى مُلوَّنًا بأجنحة الفراشات». وشيئًا فشيئًا نصل إلى الخاتمة لتردد الأغنية التى كانت ترددها مع فرقة ديبو جاز التى تحوَّلت مع الزمن إلى نشيد للحياة وللشباب المُنكسر بعد أن فشل نهائيًّا فى أن يجد وطنًا بديلًا:
تُسرقُ منا الأحلام
عبثًا نبحث عن سُفنٍ تنقلنا،
عن رياح تعصف بحواسنا وشمسنا.
(وللتحليل بقية)
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.