لم يكن استشهاد فادي محمد البطش ( 35 عاما )، عالم ومهندس وأكاديمي فلسطيني شاب تخصص في الهندسة الكهربائية، تميز بتفوقه وإنجازاته العلمية القيمة، والمقيم في ماليزيا، خبرا عاديا، بل كان صدمة لجميع من عرفوه وأحبوه، فقد نعته المؤسسات الماليزية والوطنية ببيانات تفيض حبا وتقديرا. اغتيال البطش، كان موضع اهتمام واسع في إسرائيل، حيث وضعه محللون في سياق "حرب الأدمغة"، المتواصلة وملاحقة العقول الفلسطينية، فأبحاثه في الإطار المدني، بعيدة عن أي نشاط عسكري، غير أن إسرائيل، في السابق اعتادت استهدفت الأدباء والسياسيين والمفكرين. ثمة شبه إجماع، من أهم محللي الشئون العسكرية في الصحف الإسرائيلية، على أن أصابع الاتهام بجريمة اغتيال المهندس الفلسطيني، فادي البطش، التي ارتكبت الأسبوع الماضي، في العاصمة الماليزية كوالالمبور، تتجه إلى جهاز "الموساد"، لافتين إلى عديد من الاغتيالات التي نفذها "الموساد"، أواتهم بها، كانت بذات الأسلوب الذي اعتبر من ميزاته. فعلي سبيل المثال لا الحصر، نجد أن الصحف الأكثر انتشارا ورواجا في إسرائيل، "يديعوت أحرونوت"، "معاريف"، "يسرائيل هيوم"، اتفقت في تحليلاتها للخبر على الفائدة الإستراتيجية لإسرائيل، من اغتيال البطش، وأن هذا الأمر يعتبر مكسبا مهما في مواجهة "حماس"، ومحاولات تسليحها بأسلحة متطورة وطائرات بدون طيار، وكذلك رسالة لأعدائها في كل مكان. واستعمل الثلاثة ذات الأمثلة تقريبا، واتفقت روح تحليلاتهم، كما لو أن أحدا لقنهم الرسائل التي يجب نقلها، وصاغوها هم بطريقتهم، كما يفعل كل من يحاول صناعة رأي عام. وبدأ الثلاثة، مقالاتهم بالشرح عن الطريقة التي نفذت بها الجريمة، وهي استخدام دراجة نارية يقودها شخصان ملثمان انتظرا لمدة 20 دقيقة تقريبا، حتى خرج البطش من بيته متجها نحو المسجد، وأطلقوا عليه أكثر من 14 رصاصة، ولاذوا بالفرار، وتركوا الدراجة النارية قرب مسرح الجريمة، واستخدموا وسيلة أخرى للابتعاد. واعتبر الثلاثة، هذه الطريقة مميزة لجهاز الموساد. في حين قالت السلطات الماليزية، إنه تم تصوير المجرمين بكاميرات الأمن، وأكدت أن احتمال ضلوع جهاز مخابرات أجنبية في الجريمة وارد بدرجة كبيرة. البطش، الذي ولد بغزة، كان تحت المراقبة لفترة ليست بالقصيرة، امتدت لعدة شهور دون أن يدري، في كل الأمكنة المهمة في حياته، في البيت والجامعة التي يدرس بها والمختبر الذي يقوم بأبحاثه فيه، أنضم البطش، لصفوف "حماس"، عندما كان في غزة قبل مغادرتها عام 2011 إلى ماليزيا، وتشير التقديرات إلى أن "حماس"، من أرسلته لزيادة علمه وخبراته في مجال هندسة الكهرباء والإلكترونيك، وأنه تولى مهام شراء المعدات التكنولوجية الحديثة والمتطورة في مجالين أساسيين، الصواريخ والطائرات بدون طيار، وأهمها مركبات في مجال "الإليكتروأوبتيكا"، وفي السنة الأخيرة، بدأ البطش، العمل على بحث خاص به". وبحسب مراقبين، تعتبر أبحاث البطش، الأخيرة جزءا من رؤية "حماس"، التي تتمثل في نشر وتوزيع الخبرات ومراكز الأبحاث التابعة لها في أكثر من مكان خارج الضفة الغربيةالمحتلة وقطاع غزة لعدة أسباب، أهمها الابتعاد عن إسرائيل وأجهزتها الأمنية، والابتعاد عن سلاح الجو الإسرائيلي لتنفيذ التجارب، وكذلك وضع الباحثين في أماكن يستطيعون الحصول على العلم والخبرة والمعدات بطريقة أسهل من وجودهم في قطاع غزة. كان الهدف من أبحاث البطش، تطوير القدرات في مجال "الإلكتروأوبتيكا"، لزيادة دقة الصواريخ والقذائف، وكذلك زيادة دقة ونجاعة آليات توجيه الطائرات بدون طيار. ويبقي السؤال المثير للجدل دائما، من يقف خلف هذا الاغتيال؟ يري مراقبون، أنه في حال كانت إسرائيل هي فعلا من يقف خلف الاغتيال، فإن هذا يقع في صلب تفكيرها، اغتيال الأهداف في مختلف دول العالم وعبر البحار، لمنع تطور أعدائهم، وامتلاكهم وسائل حديثة وأسلحة دقيقة، وضرورة تنفيذ مثل هذه الأمور قبل أن يصل علماءهم إلى ما يريدون. وليس أدل علي ذلك من قول يوسي كوهين رئيس الموساد نفسه، التي يقول فيها، إن "المواجهة هي عنوان اللعبة، وظيفتها اجتثاث القدرات الإستراتيجية لأعدائنا التي من الممكن أن تشكل خطرا في المستقبل على أمن إسرائيل ومستقبلها، وعند الضرورة، يجب ضرب العدو نفسه، لكن شرط أن يكون الأمر جزءا من توجه متعدد الوسائل". وكذلك قوال رئيس الموساد السابق، مئير بن داجان، عن "سلسلة عمليات سرية ومحددة تؤدي إلى تغيير الواقع الإستراتيجي". يمكننا رؤية عملية اغتيال البطش في ماليزيا، كجزء من سلسلة عمليات اختبار نسبت لإسرائيل في السنوات الأخيرة، واغتيل فيها عدد من العلماء الذي عملوا على تطوير قدرات "حماس"، لامتلاك طائرات بدون طيار، منها اغتيال المهندس التونسي محمد الزواري في بلاده في ديسمبر 2016، والذي عمل على تطوير طائرات انتحارية بدون طيار، والأخطر من ذلك أنه عمل على تطوير أسلحة انتحارية تعمل تحت الماء، التي أعدت لإصابة حقول الغاز الإسرائيلية في البحر المتوسط. ومن ضمن هذه العمليات أيضا، تفجير سيارة القيادي في حركة "حماس"، محمد حمدان، في مدينة صيدا اللبنانية في يناير 2017، وأسفرت عن إصابته فقط، كذلك قامت إسرائيل، بتدمير عدد من الطائرات بدون طيار التي أطلقتها الحركة، فوق البحر المتوسط. إن الإقدام على خطوة جريئة كاغتيال البطش، في دولة بعيدة وفي منطقة مليئة بكاميرات الأمن، وبمواجهة شخص يعلم جيدا أنه تحت التهديد طوال الوقت، هو أمر خطير ويمكن الإقدام عليه فقط في حال كان الهدف خطيرا جدًا وإخراجه من اللعبة يشكل ضربة قوية للعدو. فضلا عن وجود هدف رمزي للعملية، وهو إعادة التأكيد على أن إسرائيل، لن تتورع عن اغتيال أعدائها ومن يعمل معهم، بغض النظر عن أماكن تواجدهم. أخيرا، نقول إنه من الصعب الجزم، بمن يقف خلف اغتيال البطش، إذ لم تتحمل أي دولة أو تنظيم مسئولية ما حدث، ويلف الصمت المطبق المستوى الرسمي في إسرائيل، رغم اتهام جهات فلسطينية عديدة لها بتنفيذ الاغتيال، التي تعتبر "الموساد"، المشتبه الأول والفوري، وحتى لو لم يكن له يد في ذلك، سيبقى مشتبها. أما عن موقف حركة "حماس"، وقيامها بالرد بشكل أو بآخر في الوقت الحالي، أتصور أنها قد تفضل التركيز على مظاهراتها السلمية في العلن، التي تصنع لها رأيا عاما عالميا إيجابيا إلي حد كبير. أما في حال قيامها بعمل عسكري واضح، فإنها تمنح إسرائيل، شرعية للرد ووضعها مرة أخرى في خانة تنظيم إرهابي منبوذ، وهي الخانة التي تريد الحركة الخروج منها. لمزيد من مقالات ابراهيم النجار;