فتح حارس المقبرة الباب، رائحة الموت كادت تعيدهم للمقهى مَرَّة أخرى. فللأموات كرامة والوقت ليل، ولكن عناد خلف وإصراره على الهزار قلبها جد. ومجلسهم غاية فى الانسجام والأنس ككل يوم على المقهى المواجه للمقبرة، حَتَّى إنَّ المارة يحسبونهم سكارى، بسبب قهقهاتهم التى تصل إلى القبور. ما حدث من خلف لم يكن متوقعا أبدا، فلم يكن بحاجة لإثبات أنَّه لا يخاف من أى شيء، ولا عزرائيل نفسه. وقد رآه الجميع أيام الحمَّى التى أصابت أهل بيته، حين رفعهم واحدا واحدا رافضا أى مساعدة، كان يوما مشهودا يوم سلم بناته للمشرحة، نظراته كتمت صرخات النِّساء حينها. وفى المساء كان يضحك كأنَّ شيئا لم يكن. يومها أطلقوا عليه «أبو قلب ميت». فلماذا غضب من حسان، القصير المدكوك، الخوّاف، أول من يجرى عند هجوم الإزالة، حين يحمل أثواب القماش ويقذفها فى دكانه بقوة لا يعلمون من أين تأتيه، وما أكثر أيام الإزالة. ويحلو لخلف التندُّر عليه: يا جدع كفياك رعب، أنت جبان ليه. أنا بترعب أنا... أنا ؟! تقدر تدخل المقبرة دلوقت، تقدر؟! وظل يكرِّر: تقدر، تقدر. وينهض من فوق الكرسى ويديه فى وسطه كأنَّه يتحدى فعلا، خَلَف نفسه كان يضحك وفى خديه بعض التَّوتر، فاندفع لسان حسان بتلقائية جعلتهم يخبطون أفخاذهم قبل أن تصل أقدامهم للأرجل وعيونهم على خلف الصابر عن قدرة وإن كان وجهه مغموسا فى النكد. تقدر تدخل لآخر قبر رخام. وقوف خلف المفاجئ وانتفاخه، كوَّم حسان فى مقعده كالفأر، ومع ذلك لا يسكت لسانه. هو يقدر !! ده كلام. ويموت حسان فى جلده ويموتون من الضحك. بينا. ظهرت علامات غضب حقيقية على وجه خلف قضمت ضحكاتهم وحولتها لصمت مستغرب، حاولوا تهدئته لكنَّه صمَّم، بالفعل جاءوا بقادوم وأزميل ليغرسه كعلامة، إمعاناً فى مرور ليلة مضحكة، لحظات عبورهم الطريق لبوابة المقبرة مفعمة بضحك مكتوم مصاحب لجذب جلباب خلف برفق بغرض منعه وفى نفس الوقت يغمزون حسان كى يشعلها نارا. لمَّا نشوف... الميه تكذب الغطاس. اقترابهم من البوابة أشعل ضحكاتهم على حارس المقبرة، وهو واحد ممن يعبثون بهم إذ يجدون ما يسليهم. عيناه مغطاة بنظارة سوداء، وجسده كهياكل الموتى، كأنَّه دفن مع فاسق يُعَذَّب وهرب فى آخر لحظة، بعضهم يقول إنَّ ضعفه جاء من معاشر جثث النساء، فالميتة تسل الجسد. وبرغم معرفته بهم، وسمع منهم سبب مجيئهم لكنه أخذ يحكى عن الأموات الذين يستيقظون كل ليلة، ويصبحون أحياء، يتجمعون فى حلقات دنْدَنة غريبة مخلوطة ببكاء مُرْ، وصول جثة رجل صالح للمقبرة لا تجعله ينام، فالأموات يقيمون فرحا. كلمات الحارس عن عذاب القبور بالتفصيل زادت تصميمه على الدخول، وأصر على بقاء الحارس معهم فى الخارج وأغلق الباب وراءه. أصواتهم كما هى، يسمعها من وراء الباب كأنَّه معهم، يقهقه فى نفسه على جبنهم، فلا شيء هنا يخيف على الإطلاق، مقبرة ومن فيها أموات «هأ هأ هأ»، وبكل حواسه أبعد أذنه عنهم، وتوغَّل لعُمق المقبرة، يعرف المسافة بالتحديد، قطعها فى الصَّباح مرات عديدة، قال لنفسه:»يا عبط، سأدخل وأعود. عدّ الخطوات.. 10، 25، 15،25..» أوو..كم؟، نسى الخطوات.. وتساءل: أين صوتهم بالتحديد؟ ليس مهما الآن، المهم كم وصلنا فى العَد، لسانه يعد وأذنه مع الصوت،اختفى صوتهم فى السَّواد. ليت واحدا منهم يسبه الآن، يلعنه؛ حَتَّى لا يظل يدخل هكذا، لعنة واحدة فقط، تربطه ببدء العودة «صوت واحد يا هووه». ما الذى أمام عينيه هذا؟. نقطة كثقب الإبرة، تبرق، حك عينيه، البريق داخل العين فى سواد بطن الغول، كاد بصره يخرج من كثرة إمعانه. «كان الهدف هنا».. لمس شيء كتفه، التفت بسرعة، دار حول نفسه، الأشباح فى السواد سواد.. وميض مظلم لا ُيرى، يبحث عن اللاشيء، تاهت اتجاهاته، لم يعد وراءه خلف ولا أمامه أمام، ويله من الصَّمت والظَّلام، فما أبشع أنْ تكون مبصرا فى جو أعمى، أيجلس هنا إلى الصباح؟! أم يصرخ وينادى عليهم؟. دخولهم مضحك ولا داعى للجبن، استجمع قواه، شدَّ على القادوم والأزميل، للمَرَّة الأولى يدرك أنَّ للصمت صمتا أعمق، فى الخارج لا يعرف الرَّعشة، لم يستطع حى أن يجعل جسده ينتفض هكذا، الجسد الممتلئ بالدَّم والحياة أرحم، على الأقل يراه. فقط. لو يرى أى شيء، لو يخرجون من تحت الأرض دفعة واحدة، أو واحدا واحدا، لقاتلهم وقضى عليهم، كم عددهم هنا؟ آلاف الأموات، أجناس وألوان لا حصر لها، لو يراهم، لكن أنْ يحيطوه هكذا. لامس غير ملموس، مسموع بلا صوت، وسط اصراره على تكملة الرهان حنَّ للعودة، لكن. لا أمل فى التراجع، فعددهم لا يحصى، عيونهم سوداء تخرج من كل قبر، هل يمكن أن يحوى القبر الواحد عيون كهذه ؟ بلا رموش أو جفون، عيونا كروية سوداء، لا ترحم، تدخل فيه، تسأله، تتهمه، وتقاتله، أغلق عينيه، العميان حياتهم صعبة، لكن الأصعب ألا ترى شيئا وأنت مفتوح العينين، بالتأكيد تلك العيون مركبة على أجساد، رفع القادوم، دار به يطيح بالصُّدور، يمزق الأجساد، ينهى لحظات اللاشيء هذه، أين الأجساد؟ أين جسده هو؟ ذاب فى السَّواد وأصبح قطعة منه، والعيون دوائر فى صفوف أسطوانية قائمة، حصرته وسطها، تسحب عينه لها، تتحرك معه وحواليه، هوى بالقادوم على العيون، تسيل أمام عينيه دماء سوداء، الفراغ يسقط فى الفراغ، ألف ألف عين أحاطت رقبته، فقأ، فعص، سوائل لزجة غير محسوسة بين يديه، تحته آلاف الأيدى تجذبه لداخل الأرض، المكان كله حفر، حفر غامقة عميقة، يجرى على جماجم بألسنة، مشقوقة وعظام مهشمة، مرعوباً يحاول أنْ يهرب للنهاية، ارتطم بشيء ضخم.. ياااه.. ليس مهما ماذا حدث لرأسه، المهم أنه وصل والسلام، وسيغرس العلامة، وعليه أن يعود، يعود. لم يشعر بارتطامات القادوم العنيفة على يده، ذهل لسماع صوت الاحتكاكات بين القادوم والأزميل، عاد لواقع كاد ينساه، دُقْ، دُقْ، لتسمع الصَّوت، وقف بعد أن اطمأن لغرس العلامة، أمسك شيء بجلبابه، سقط قلبه فى طرف الجلباب، فى الجزء المقبوض عليه بقوة، هرب ب قلبه فى رأسه فصنع عجينة مع مخه، سحب الماسك العجينة وكل عروقه ورماها دفعة واحدة فى قاع القبر، قبر الميت، والميت صاح. طال وقوفهم فى الخارج فقرروا الدُّخول. بدت القبور على ضوء «الكلوب» صناديق فضة تسبح فوق سحاب داكن. ابتسمتْ القبور وسرقت الأضواء من الأرض وسحبتْ عيون أجسادهم. ابتسموا بلا وعى. تلاقت وجوههم مع نهاية الابتسامات. فض الاستغراب صوت أحدهم. هاهو. كان يلهث قادما فى ذهول شاحب ويده قابضة على القادوم والأزميل مغروز فى نهاية الجلباب يتأرجح.