كانت المواجهة بين رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، وزعيم حزب العمال المعارض، جيرمي كوربن، حول الأسس الأخلاقية والقانونية ومدي فاعلية الضربات العسكرية التي قادها البريطانيون والأمريكيون والفرنسيون ضد سوريا انعكاسا واضحا لصدام رؤيتين متعارضتين. الرؤية الأولي التي دافعت عنها ماي بضراوة هي أنه كان من الصواب استخدام القوة العسكرية بغض النظر عن شرعيتها القانونية المستندة إلي ميثاق الأممالمتحدة، طالما أن هناك مبررات أخلاقية ملحة. والرؤية الثانية التي دافع عنها كوربن هي أنه كان لابد من التمسك بالمسار القانوني لأي تحرك عسكري، سواء المسار القانوني داخل بريطانيا عبر تصويت البرلمان، أو المسار القانوني الأوسع عبر الأممالمتحدة. فكما يقول كوربن إن تقويض القوانين الدولية واستمرار تهميش دور الأممالمتحدة هو بحد ذاته خطر هائل لا يبرره أي تحرك باسم الدوافع الأخلاقية. وخلال يومين حادين في البرلمان وأكثر من 150 سؤالاً إلي تيريزا ماي، خرجت رئيسة الوزراء «منتصرة» علي زعيم المعارضة. لم يتوقع الكثيرون في بريطانيا أن تخرج ماي منتصرة أمام كوربن في المواجهة حول استخدامها القوة العسكرية دون ضوء أخضر من البرلمان. لكن المناقشات والمداولات وضعت نواب مجلس العموم أمام خيارين: خيار ماي هو التحرك العسكري وفقاً لما تراه الحكومة «حماية لمصالح الأمن القومي البريطاني» دون انتظار البرلمان أو الأممالمتحدة. خيار كوربن هو انتظار غطاء قانوني داخلي، وغطاء قانوني خارجي في مجلس الأمن ما يتطلب موافقة روسيا، وهذا أمر مستبعد، إن لم يكن مستحيلا. وفازت ماي بالحجة. ففي دفاعها عن قرارها، قالت أمام البرلمان إنه أمام «الوصمة علي إنسانيتنا»، بعد الهجمات الكيميائية المزعومة في دوما بالقرب من دمشق، كان لابد علي لندن وشركائها التحرك بسرعة لمنع المزيد من الهجمات. واتهمت ماي موسكو بمنع قرارات سابقة لمجلس الأمن للسماح للمفتشين الدوليين بالتحقيق في هجمات كيماوية أخري مزعومة من بينها هجوم خان شيخون قرب إدلب العام الماضي. وحذرت من أن انتظار الأممالمتحدة السماح بإجراء عسكري في المستقبل يعطي روسيا فعلياً حق النقض (الفيتو) علي السياسة الخارجية البريطانية. وخلصت ماي إلي أنه «لم يكن لدينا خيار آخر. كان لابد أن نتحرك وبسرعة». وتابعت: «كانت الضربة محدودة ودقيقة وتستند إلي أساس قانوني تم استخدامه من قبل (وهو التدخل علي أساس إنساني). وكان القرار يتطلب تقييماً للمعلومات الاستخبارية والمعلومات، التي كان الكثير منها ذا طبيعة حساسة لا يمكن مشاركتها مع البرلمان». ولحسن حظ رئيسة الوزراء البريطانية، فقد كانت الضربات محدودة فعلاً وقصيرة ولم يترتب عليها خسائر في الأرواح من الدول الثلاث المنخرطة فيها أو بين الجنود الروس علي الأرض في سوريا. وبرغم تحفظاتهم علي عدم استشارتهم مسبقاً، اعترف غالبية النواب أنهم كانوا سيوافقون علي توجيه ضربة عسكرية ضد سوريا إذا طلبت الحكومة ذلك. وفي تصويت علي مذكرة تدعم الحكومة، صوت غالبية النواب لمصلحة تيريزا ماي. لكن علي أرضية قانونية وأخلاقية وسياسية مختلفة تماماً، انتقد جيرمي كوربن الضربات، واصفاً إياها في أثناء المناقشة في مجلس العموم بأنها «مشكوك فيها قانوناً»، موضحاً: «إن تبرير الحكومة الذي يعتمد بشكل كبير علي مبدأ التدخل الإنساني المثير للجدل أصلاً غير مقنع من دون سلطة الأممالمتحدة، وهكذا أعطت الحكومتان الأمريكية والبريطانية لنفسيهما مرة أخري سلطة التصرف من جانب واحد». وعلي الرغم من أن العديد من أعضاء البرلمان يوافقون علي الخطاب المبدئي لجيرمي كوربن، وإصراره علي التحرك عبر منظومة الأممالمتحدة والقوانين الدولية، فإن شلل الأممالمتحدة في هذا الملف وغيره من الملفات، حقيقة لم يكن من السهل تجاهلها بالنسبة للكثير من النواب. فالأممالمتحدة لاتعمل في فراغ، وهي نتاج للبيئة السياسة والقوي الدولية. ومع اشتعال حرب باردة جديدة، والطريق المسدود في سوريا بسبب استخدام واشنطنوموسكو المتواصل حق الفيتو لمنع الطرف الآخر من تطبيق أجندته، لا عجب أن ينظر النواب في مجلس العموم البريطاني للأمم المتحدة ككيان عاجز أكثر من أي شيء آخر. فإيمان جيرمي كوربن بالمؤسسة الدولية، مثير للإعجاب لكنه ليس سياسة واقعية. لذلك علي الرغم من أن «لغة» كوربن وجدت الكثير من الدعم في البرلمان ولدي الرأي العام بعد الغارات، إلا أن «تحرك» ماي يجد دعماً أكبر الآن، حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته محطة سكاي الأخبارية أن نحو 49% من البريطانيين يؤيدون الضربة العسكرية دون ضوء أخضر من البرلمان. ومع ذلك فإن التدخل العسكري الأخير لن يغير الكثير علي أرض الواقع ولن يجعل الوضع أفضل حالاً في سوريا. وهذا هو التحدي الأكبر الذي واجهته ماي خلال جلسات البرلمان. فسؤال مدي أخلاقية أو قانونية الغارات تراجع أمام سؤال مدي «تأثير وفاعلية» الضربات. فسوريا في طريق مسدود والحل لا يبدو في الأفق،خاصة بعد التقدم الأخير للقوات التركية في شمال سوريا وزيادة الوجود الأمريكي في شرق سوريا. وهناك حاجة ماسة إلي استئناف فوري لمحادثات جنيف، وإلا تجددت غارات مماثلة قريباً حذرت منها فيديريكا موغيريني، مسئولة الشئون الخارجية في المفوضية الأوروبية، بقولها إن الاتحاد الأوروبي «يتفهم» الضربات الجوية الأخيرة، ولكنه يطالب بالعودة للمسار السياسي فوراً لإنهاء الحرب الأهلية، وإلا تحول الصراع إلي «حرب دولية». وسبب المخاوف الأوروبية المتزايدة هو أن المسئولين في بروكسل يلاحظون تغييرات في السياسة الخارجية الامريكية منذ أطاح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بكل من وزير الخارجية ريكس تريلسون، ومستشار الأمن القومي الجنرال ماكماستر. وقال مصدر أوروبي مطلع علي تطورات الملف السوري ل «الأهرام» إن المواجهة باتت دولية 100% مع التطورات الأخيرة علي الأرض والنهج التصعيدي للسياسة الخارجية الأمريكية منذ نوفمبر الماضي بعد التغييرات في مجلس الأمن القومي الأمريكي والبيت الأبيض ووزارة الخارجية. وأضاف: تم تدويل الأزمة بشكل كامل. ونحن الآن في مرحلة الجمود المتوتر أو الجمود القلق. فكل القوي الدولية انخرطت في الساحة السورية بقدر ما تستطيع، ووصلنا الآن إلي مرحلة: كش ملك». ويوضح المسئول الأوروبي:»الروس يشعرون بأنهم أكملوا مهمتهم في سوريا وهي تأمين النظام السوري. وهذا حدث فعلاً، فالنظام السوري لن يسقط. لكن في نفس الوقت لا يريد الروس خوض معارك لاستعادة السيطرة علي كل الأراضي السورية مع النظام وحلفائه. أما الامريكيون، فهم متمركزون في شرق سوريا مع الأكراد. بينما الأتراك بعد الاستيلاء علي عفرين في شمال سوريا، تتجه أعينهم إلي مدينة منبج ويحصلون عليها. أما القوات السورية، فتسيطر حالياً علي نحو 50% من مساحة سوريا بعد استعادة كل ضواحي دمشق. لكن ماذا بعد الحسم العسكري في دوما وعربين والغوطة الشرقية؟. إن النظام السوري لن يستطيع استعادة السيطرة علي كل الأراضي السورية مادام أن امريكا وتركيا وفصائل المعارضة موجودون علي الساحة السورية». ومن وجهة نظر فيديريكا موغيريني لابد تبدأ مفاوضات في أسرع وقت ممكن، فكلما تأخرت المفاوضات انحسر دور الدبلوماسية، وعاد الصراع من جديد إلي دائرة الحسم العسكري.