بين سندان الإصلاح ومطرقة التعنت النقابي يقع المواطن الفرنسي أسيرا ومكبلا، حيث تدخل الإضرابات العمالية بفرنسا (فيما سمي ربيع الغضب ) أسبوعها الثاني في محاولة للي ذراع الحكومة وإجبارها علي التخلي عن خطتها المزمعة للاصلاح. كانت الحكومة قد أعلنت في وقت سابق خططا لخفض الإنفاق ب 16 مليار يورو (18 مليار دولار) خلال 2018 عبر إجراءات تتضمن تجميد رواتب العاملين في القطاع العام وإلغاء نحو 1600 وظيفة،في أول خطوة من خطة ماكرون لإلغاء 120 ألف وظيفة بحلول عام 2022.الخطة لم تلق ترحيبا من الشريحة الكبري للعمال،إذ اعتبروها موجهة ضدهم.لذا من المتوقع أن تشهد فرنسا احتجاجات كثيرة خلال الاشهر الثلاثة المقبلة، حيث تطالب النقابات بتعديل خطة الإصلاح الاقتصادي لماكرون، أو مواصلة التصعيد في التحركات الاحتجاجية الراهنة. الحكومة من ناحيتها تري وجود ضرورة ملحة لتقليص التوظيف الحكومي بصفة عامة، وإجراء تغييرات علي بعض البنود المعينة في قانون العمل المعمول به في الشركة الوطنية للسكك الحديدية (اس ان سي اف) كونها تضمن الوظيفة طوال الحياة.فهي تري ان هذا الوضع اصبح غير مقبول، خاصة أن هذه الهيئة تعاني تفاقما لديون لا تستطيع تحمل مسئوليتها. لذا جاءت حركة الإضراب الأخيرة احتجاجًا علي الإصلاحات التي اعلنها الرئيس ماكرون لتحويل الشركة الوطنية للسكك الحديدية إلي شركة مساهمة تحقق أرباحا مثلما يشترط قانون الاتحاد الأوروبي، وهو ما اعتبره كثيرون تمهيدا لخصخصتها رغم نفي الحكومة نيتها القيام بذلك. وكان رئيس الوزراء ادوار فيليب قد أكد أن الإصلاح المرتقب يهدف بالأساس إلي تحرير سوق العمل وجعله أكثر مرونة ولكنه يحمي في الوقت ذاته الموظفين، واشار فيليب الي انه لا يسعي إلي إرضاء هذا الجانب أو ذاك، بقدر ما يسعي الي تنفيذ تعليمات الرئيس للنهوض بالاقتصاد. وأشار فيليب إلي أن القانون يحتوي علي نقاط إيجابية للموظفين أيضا وليس لأرباب العمل فحسب، مثل زيادة التعويضات في حالة الفصل التعسفي بين صاحب العمل والعامل. كما أوضح رئيس الوزراء في آخر تصريحات له أن حكومته لن تتزحزح عن موقفها الخاص بإصلاحات قطاع السكك الحديدية رغم الاحتجاجات النقابية. مشددا علي أن التوقف عن تعيين عمال للسكك الحديدية بعقود ضخمة تسري مدي الحياة غير قابل للتفاوض، كما أصرّ علي عدم رضوخ الدولة لتحمل مسئولية ديون الشركة مثلما تطمح الاتحاديات العمالية، رافضا أي محادثات في هذا الشأن الا بعد الاتفاق علي إعادة تنظيم الشركة. وخاصة ان ديون الشركة الوطنية للسكك الحديدية تصل إلي 46 مليار يورو (57 مليار دولار). وتتهم النقابات الرئيس ايمانويل ماكرون بالتسلط، كما تؤكد أن أي رئيس لا يستطيع إجراء تغييرات دون ان يكون الشعب في صفه. وتؤكد أيضا أنها ستصمد في مجابهة هذه الخطة المتعنتة. ومنذ ان كشفت حكومة ماكرون النقاب عن نياتها و فرنسا تعاني حالة ارتباك في جميع مؤسسات الدولة ، فقد أعلنت السكك الحديدية عن إضراب يومين في الأسبوع يستمر لمدة ثلاثة أشهر-حتي نهاية يونيو- ولَم يتوقف الأمر عند السكك الحديدية، بل طالت الإضرابات العديد من الجهات كقطاع الطاقة والطيران والعاملين في جمع القمامة. وما يزيد الطين بلة مشاركة طلاب الجامعات في حلقة الاحتجاجات ،وهو ما يفاقم من الأزمة. وفي هذه الجزئية يري بعض المتخصصين في الشئون الاقتصادية ان الحكومة مسئولة عن الخسائر التي تتكبدها الدولة يوميا بسبب هذه الاضرابات،ويعد إصلاح قانون العمل بفرنسا من أصعب المشروعات غير القابلة للتغيير، بل ظل لحقب رئاسية متعددة حلما يراود صانعي القرار في الحكومات المتناوبة علي البلاد من اليمين لليسار. وقد أخذ كل ساكن للاليزيه علي عاتقه خطة إدراجها علي برنامجه الانتخابي أملا في التغيير، إلا أن هذا القانون مازال من الخطوط الحمراء للفرنسيين والنقابات والمعارضة اليسارية معا حيث يعتبرونه من المكاسب التي لا يمكن التنازل عنها. وقد تأهبت النقابات والمعارضة لحشد أنصارها والنزول للشارع ضد هذه التعديلات التي يري 68% من الفرنسيين أنها ستخدم مصالح أرباب الأعمال بالدرجة الأولي. وان كانت الحكومة لا تخفي هذا الأمر بغية مساندة رجال الأعمال لها، ولدفعهم لتشغيل المزيد من العاملين وبالتالي تقليص حجم البطالة الذي يعد أمرا ملحا ومطلبا أساسيا من أجل تحسين مستوي معيشة الفرنسيين. ومن أجل مزيد من الفهم لهذا التمسك الشديد بالقانون والاستماتة للحيلولة دون المساس، به لابد من الإشارة إلي أن هذا القانون ينص علي أن للعامل حقوقا تسانده ضد سطوة رأس المال. فلا يحق-مثلا- لصاحب العمل تسريح العمالة بدون أسباب واضحة ينظمها القانون ذاته. اما عن فحوي الإصلاحات المزمعة والتي ترغب الحكومة في إقرارها ، فمن أهم ما تتضمنه وضع سقف لقيمة العطلات وقيمة التعويضات جراء الفصل التعسفي، والسماح للمجموعات التي لا يعتبر نشاطها مربحا في فرنسا بتسريح الموظفين حتي لو كانت هذه الشركات مزدهرة عالميا، ووضع عقود عمل جديدة تتيح الفصل في نهاية مهمة محددة. وبالطبع أثارت هذه البنود حفيظة النقابات العمالية، معتبرة أن هناك خطوطا حمراء لا يجب تخطيها كمرونة عقود العمل لفترة زمنية محددة، وعقود العمل لأجل غير محدد التي يجري العمل بها في قطاع البناء، والتفاوض دون وجود ممثل نقابي في الشركات الصغيرة والمتوسطة، إذ تأمل الحكومة في أن يتفاوض ممثل عن العمال مباشرة مع رئيس العمل. وبالرغم من أن هذه البنود تثير تخوف غالبية الموظفين والنقابات العمالية، إلا أن أرباب الأعمال ينتظرونها بفارغ الصبر، حيث وجدوا فيها الكثير من المزايا التي تترك لهم هامشا أكبر من الحرية في التعامل مع موظفيهم. وقد أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجراه معهد «أوبنيون واي» نشر مؤخرا أن 68% من الفرنسيين يعتقدون أن إصلاحات قانون العمل ستكون في صالح أرباب الأعمال، وستؤثر سلبا علي حقوق الموظفين والعمال. وعبر 63% منهم عن اعتقادهم أن التعديلات المقترحة غير ملائمة لسوق العمل. وتراهن الحكومة علي تحقيق معدل نمو بنسبة 7 % مع نهاية ولاية الرئيس إيمانويل ماكرون. حيث أشادت كريستين لاجارد مديرة صندوق النقد الدولي ووزيرة الاقتصاد السابقة في فرنسا،-مؤخرا-ب «جودة وطموح الإصلاحات» التي انخرطت فيها فرنسا. وهكذا توضح تطورات الأحداث ان ربيع الغضب الاجتماعي يهب علي الاليزيه رغم تمسك ماكرون بخططه الإصلاحية، التي تخول له استكمال خطته المرتقبة في إصلاح عدة قوانين أصبحت لا تتواكب مع منظومة الاتحاد الأوروبي، ولا مع متغيرات البنية المجتمعية بفرنسا حاليا .