ما إن فرغت تيريزا ماى رئيسة الوزراء البريطانية من إعلان “ترجيحها” وليس “تأكيدها” لتورط موسكو فى محاولة اغتيال جاسوسها السابق سيرجى سكريبال فى بريطانيا، حتى سارع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى حشد “التأييد” اللازم للانضمام إلى قرارها حول طرد الدبلوماسيين الروس، مما قد يعنى ضمنا أن الأمر كان قد أُعد سلفا، وأن وراء الأكمة ما وراءها. فما هى حقيقة أسباب اندلاع مثل هذه “الحرب” التى لم يشهد تاريخ الدبلوماسية العالمية لها مثيلا؟ وما هى الأسباب الحقيقية لذلك “الجنون” الذى يجتاح أروقة السياسية الدولية؟ فاجأ الرئيس الروسى فلاديمير بوتين العالم بإعلانه “كذب” مزاعم أقطاب العالم الغربى الذين يتهمونه وبلاده فى التورط فى تسميم عميل روسى سابق لا يزال يعيش على الأراضى البريطانية. قال بوتين فى مؤتمره الصحفى الذى عقده أخيرا مع نظيره التركى رجب طيب أردوغان إن ما تقوله تيريزا ماى رئيسة الحكومة البريطانية ومن يسير فى ركاب الإدارة الأمريكية حول أن مصدر المادة السامة التى استخدمت فى تسميم العميل الروسى يجرى إنتاجها فى عشرين دولة، وأن سكوتلانديارد قالت بضرورة توفير مهلة زمنية لا تقل عن شهرين لتأكيد مصدر هذه المادة السامة، فى الوقت الذى كانت ماى قد رفعت فيه راية الاتهام إلى بوتين وبلاده فى غضون أقل من 24 ساعة من وقوع الحادث، وإن اعترفت بانها “ترجح” ولا “تؤكد فرضية تورط موسكو فى ارتكاب هذه الجريمة. وكان مدير مختبر الأبحاث البريطانى السرى “بورتون داون”- معامل وزارة الدفاع البريطانية، قد أكد فى وقت سابق، فى حديثه إلى قناة “سكاى نيوز”، أن خبراءه فشلوا فى تحديد مصدر منشأ غاز الأعصاب الذى قالت ماى باستخدامه ضد الجاسوس الروسى وابنته. الكثيرون من المراقبين يحارون أمام مثل هذه “الحملة كاملة العدد” التى يشنها ترامب ومن يسير فى ركابه ضد روسيا وزعيمها، بل وهناك من يقول فى الغرب أيضا بوجود الكثير من المؤشرات التى تشى بعدم منطقية وعقلانية ما طرحته ماى رئيسة الوزراء البريطانية من “حجج” قالت مصادر روسية إنها تظل “واهية” وتفتقر إلى الأدلة والقرائن. كما أن اللقاءات التى جمعت تيريزا ماى مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون كشفت عن اتفاق هو الأقرب إلى “الاتهام”، والذى أسهم لاحقا وإلى حد كبير فى التعجيل بقرار الرئيس الأمريكى حول طرد 60 دبلوماسيا روسيا منهم 12 من العاملين فى البعثة الدبلوماسية الروسية فى الأممالمتحدة، وهو ما اعتبرته موسكو تجاوزا لا تزال تعكف على دراسته من منظور الاتفاقية الموقعة بين المنظمة الدولية والولاياتالمتحدة بوصفها دولة المقر، وما يترتب عليها بموجبها من التزامات، فضلا عن إصرارها على الرد بقرار مماثل يقضى بطرد ستين من الدبلوماسيين الأمريكيين وإغلاق القنصلية الأمريكية فى سان بطرسبورج، كرد مماثل للقرار الأمريكى بإغلاق قنصليتها فى سياتل. وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” قد نشرت بعضا مما جرى وراء كواليس هذه الأحداث، فيما نشرته عن أن “رؤساء الحكومات والدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى خلصوا إلى اتفاق حول أدلة وبراهين قدمها “الثلاثي- ماى وميركل وماكرون” بحلول صباح 23 مارس الماضي، واقترح الرئيس الفرنسى على جميع المشاركين فى القمة ببروكسل الإعلان عن الطرد الجماعى للدبلوماسيين الروس الاثنين 26 مارس”. ورغم ما يشبه الإجماع لدى اتخاذ هذا القرار، فإن دولا أوروبية رفضت الوقوف فى وجه روسيا، ومنها النمسا التى كشفت كارين كنايسل وزيرة خارجيتها عن عدم توافر الأدلة المقنعة للانضمام إلى مثل هذا الموقف، وضرورة التزام بلادها للحياد فى مثل هذه الحالة لتوفير قنوات الحوار اللازمة للخروج من هذه الأزمة. وفى هذا الشأن أيضا، توقفت موسكو بكثير من الارتياح عند موقف إسرائيل من عدم الانحياز إلى هذه الحملة التى تتزعمها واشنطن ولندن لأسباب منها عدم توافر الأدلة لدى الموساد بهذا الشأن، وهو ما يثير عددا من التساؤلات حول إغفال الإعلام الروسى لعدم انحياز أى من الدول العربية ومنها التى يحسبونها على حلفاء واشنطن، إلى الحملات الآنية المضادة لموسكو. وفى هذا الشأن أعاد مراقبون كثيرون إلى الأذهان ما سبق وأعلنه كولين باول وزير الخارجية الأمريكية الأسبق فى مجلس الأمن فى عام 2004 حول توفر الأدلة والبراهين حول امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل التى عرض بعض نماذجها فى أنابيب صغيرة، وهو ما صار فيما بعد “أضحوكة العالم”، وما اضطر تونى بلير رئيس الحكومة البريطانية إلى الاعتراف بكذبه، والاعتذار عنه، وهذا هو ما حرصت موسكو على معاودة الإشارة إليه لدى إعلانها عن قراراتها التى ردت بها على مجموعة الدول التى بادرت بطرد دبلوماسييها، بشأن اتخاذ قرارات مماثلة فى العدد والمضمون، فضلا عن تنفيذ وعيدها بطرد ما يزيد عن خمسين دبلوماسيا بريطانيا آخر، فى إطار تطبيق مبدأ التكافؤ والمساواة مع عدد الدبلوماسيين الروس فى بريطانيا. ورغم الضجيج الذى صاحب تلك الحملة الدعائية التي اعلنتها تيريزا ماي، وانضم اليها زعماء الولاياتالمتحدة وألمانيا وفرنسا، فإن هناك من يظل يبحث عن المبررات التى دفعت اللاعبين الرئيسيين فى الساحة الدولية إلى ما يكاد يقترب من “إعلان الحرب” ضد روسيا. وإذا كان تفاقم الأوضاع والأزمات الداخلية، والمخاوف من نتائج انتخابات المحليات المقبلة فى بريطانيا، تبدو فى صدارة الأسباب التى دفعتها إلى “افتعال” مثل تلك الأزمة، فإن هناك أيضا من أزمات الداخل وغيرها من التعثر والارتباك الذى تتسم به السياسة الخارجية الأمريكية، ما دفع ويدفع إلى تصعيد المواجهة والتوتر مع روسيا تحسبا لمدى ما يمكن أن يحصل ترامب عليه من مكاسب على صعيد السياسة الخارجية. وإضافة إلى ذلك، فثمة من يقول إن الخطاب الذى ألقاه الرئيس الروسى فى مارس الماضى وكشف فيه عن توصل بلاده إلى أحدث نماذج المنظومات الصاروخية، قال إنه لا مثيل لها فى العالم ، مؤكدا قدراتها على مواجهة أخطار منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية التى طالما هددت روسيا منذ مطلع القرن الحالى، أثار حفيظة ترامب والكونجرس الأمريكى وزاد من مخاوفهم تجاه تصاعد قوى روسيا ودعم قدراتها العسكرية فى مواجهة مخططات واشنطن. وتقول المصادر الأمريكية إن هذا الخطاب وبدلا من أن يكون، وكما أراد بوتين، دعوة إلى الحوار، تحول فى مضمونه إلى ما اعتبره الأمريكيون تهديدا وتحديا مباشرا للولايات المتحدة ومصالحها فى المنطقة والعالم، فضلا عن كونه بداية صريحة لسباق التسلح، بل وهناك من قال صراحة إنه “إذا كانت رغبة واشنطن فى دعم بريطانيا بوصفها أحد أهم حلفاء الناتو، هى الدافع إلى قرار الخارجية، فإن ثمن هذا التضامن عبر الأطلنطى سيكون المزيد من التفكك فى نظام الحد من التسلح، أى عدم الاستقرار الاستراتيجي. ستُرغم روسيا على الرد، وستتطور المواجهة أكثر فأكثر”. غير أن هناك فى روسيا من يرى التصعيد الراهن أمرا يزيد من حدة التوتر الدولي، ويخدم بشكل مباشر مصالح التنظيمات الإرهابية، ويحول دون استمرار التنسيق والتعاون فى المحافل الدولية لمكافحة الإرهاب. وفيما تظل الأجواء تتسم بالسخونة والتوتر، خرج بعض المعلقين للتحذير من مخاوف عودة الحرب الباردة، التى يزيد من وطأتها ما كشف عنه أناتولى أنطونوف سفير روسيا فى الولاياتالمتحدة من محاولات أجهزة المخابرات الأمريكية الرامية إلى تجنيد الدبلوماسيين الروس الذين طردتهم واشنطن تضامنا مع بريطانيا فى قضية الجاسوس الروسي. وكان أنطونوف قد أشار فى تصريحات أدلى بها إلى التليفزيون الروسى إلى انه لا يتذكر أن العلاقات الروسية الأمريكية بلغت من التدهور مثل ذلك الحد الذى بلغته فى الآونة الأخيرة، ونقل عنه موقع “لينتا رو” الإليكترونى الروسى ما قاله حول إن مصادره فى واشنطن “تمكنت من رصد العديد من محاولات المخابرات الأمريكية لتجنيد الدبلوماسيين الروس، تمهيدا لدفعهم إلى خيانة بلادهم ، وهو ما أبلغه إلى موسكو”. وإذا أضفنا إلى كل ذلك ما سبق وقيل عن تراجع مواقف وتأثير الولاياتالمتحدة، وخشيتها من تحقيق روسيا للكثير من المكاسب فى أسواق الطاقة العالمية خصما من رصيدها فى أوروبا، فضلا عما تكبدته سياساتها من هزائم بما فى ذلك فى منطقة الشرق الأوسط، وعجزها عن حل أى قضية عالمية او إقليمية دون مشاركة موسكو، فإننا نكون أقرب إلى استيضاح الكثير من أسباب الأزمة الراهنة، التى ثمة من يقول أنها تكاد تكون البديل الذى اختاره الخصوم أمام روسيا التى بات من الصعب التعامل معها من موقع القوة أو التهديد بها، كما تفعل الولاياتالمتحدة اليوم مع كوريا الشمالية وإيران. .. أليس كذلك؟