لا يمكن أن يمر حدث القيامة، دون أن نمعن النظر مفتشين فيما تعنى القيامة لنا، على جميع المستويات، سواء الشخصية، أو غيرها. فبقيامة المسيح اهتزت أسس كثيرة، فالقيامة حدث فاصل فى التاريخ، فموت المسيا وقيامته الفريدة من نوعها لم تكن فكرة رائجة فى الفكر اليهودى آنذاك. إن المتابع لحركة التاريخ سيرى نقطة تحول جذرية فى تاريخ جماعة التلاميذ التى أحاطت بالمسيح، لا تقف عند حدود الصليب؛ الذى كان نهاية لكل الأحلام اليهودية القومية والسياسية المتعلقة بالمسيا. كما أن فكرة القيامة كانت غريبة عن هذا السياق اليهودى الذى يؤمن بقيامة واحدة وهى قيامة الأموات فى يوم الدينونة. عاين اليهود العديد من معجزات إقامة الموتي، لكن لم تكن ملابسات وظروف قيامة المسيح مشابهة لفكرة القيامة لدى اليهود؛ فلا هى قيامة جماعية للأموات فى يوم الدينونة ولا هى معجزة إقامة ميت مثل التى شاهدوها سابقًا. ومن هنا، فإن القصة لو وقفت عند الصليب تكون قد انتهت تمامًا، فالتغيير الحقيقى الذى ارتبط بهذه الجماعة هو التغيير المرتبط بالقيامة غير المتوقعة للسيد المسيح. فلم يكن ممكنًا لهؤلاء التلاميذ والآلاف من التابعين أن يموتوا وأن يواجهوا كل هذه الاضطهادات ما لم تكن القيامة حقيقة؛ فهى القوة المغيرة التى صنعت جماعة جديدة غيرت التاريخ الإنساني. التغيير ليس سهلًا، خاصةً على من لا يأتى التغيير فى مصلحتهم، أو من يجبرهم التغيير على الخروج من دائرة الراحة الشخصية والأمان الزائف الذى يسببه الجمود؛ لذا فقد واجهت الجماعة الأولى التى غيَّرتها القيامة تحدياتٍ وصراعاتٍ صعبةً، يواجهها كلُّ حالمٍ بالتغيير أو ساعٍ إليه. وإذ واجهت هذه الجماعة تلك التحديات، تمخض هذا الصراع عن نقطة تحول فاصلة فى تاريخ البشرية. فعلى سبيل المثال، واجهت الجماعة الأولي، ومن قبلهم السيد المسيح، حرسًا قديمًا رافضًا للتغيير، تمثَّل فى مجموعات دينيةٍ متمسكةٍ بمظهر العبادة دون جوهرها، تقدس الطقس وتتناسى معناه، وبأفعالهم هذه حمَّلوا الناس أحمالًا ثقيلة وهم لم يلمسوها بأطراف أناملهم. واجههم السيد المسيح فجال يصنع الخير فى السبت معلِّمًا أن السبت وُضع لراحة الإنسان وتمجيد الخالق، وأنه ليس حملًا، علَّم السيد المسيح أن الصلاة والصدقة والصوم، يجب أن تأتى من داخل قلب الإنسان محبةً فى الله وفعل الخير وليس تتميمًا لطقس ديني. الإنسان أهم من الطقس الديني. على جانب آخر، دافعت الجماعة القديمة عن جمود النظام السائد، إذ كان من مصلحتها بقاء الوضع على ما هو عليه، فهذا التغيير يهدد مكانتهم ومكاسبهم، ويزعزع أمانهم الزائف ويقتلعه من الجذور، يبدو هذا مؤلمًا بالنسبة لهم، خاصة مع استمرار هذا الجمود لقرون طويلة. لذا واجهوا السيد المسيح بكل ما يستطيعون من قوةٍ، اتهموه بأن به شيطانًا، ساقوا ضده، وضد تلاميذه من بعده، كل الوسائل والحيل دفاعًا عن جمودهم. وعلى هذا المنوال، إذ يتلاشى الأمل فى مستقبل أفضل يبدأ الإنسان فى تمجيد الماضي، وإنكار أزمته، فيتحول الماضى من مدعاة للفخر ونقطة انطلاقة للمستقبل إلى سجن يضع فيه الإنسان نفسه ويرفض الخروج منه لاستنشاق نسيم المستقبل. واجه السيد المسيح هذا بكل قوةٍ، علَّم أنه ينبغى احترام الماضي، ولكن يجب تجاوزه واستلهام العِبَر منه لبناء المستقبل، فى تعاليمه كان يؤكد دائمًا: «سمعتم أنه قيل... أما أنا فأقول...»، إلَّا أنه أكد أيضًا أنه لم يأتِ لينقض بل ليكمل. جاء لينقد الماضى لا لينقضه. وكذلك فعل تلاميذه من بعده؛ إذ نجد بطرس فى عظة يوم الخمسين؛ إذ يستهلها بنبوءة من العهد القديم، كى يؤكد للمستمعين أن الهدف ليس هدم الماضي، بل إعادة رؤيته بعين اليوم التى تنظر إلى المستقبل. الخوف من التغيير، ربما يكون خوفًا من التكلفة ومن النتائج، أو دفاعًا عن مكاسب ومصالح؛ كانت هذه الجماعة تقاوم التغيير ربما لأنها كانت ستفقد امتيازاتها ومكاسبها، لقد وبخ السيد المسيح الكتبةَ والفريسيين لانتفاعهم من الجمود والوضع القائم آنذاك، فكان من الطبيعى أن يواجهوه مدافعين باستماتةٍ عن امتيازاتهم. ربما خافوا من كشف شرورهم، وإذ يفضح التغيير مساوئ الجمود وسلبياته، يبدأ الجمود فى الدفاع عن وجوده. كل هذه التحديات واجهتها الجماعة الأولى قبل القيامة ولم يكن ممكنًا أن يواجهوها من دون قوة مغيِّرة، دافعةً، كانت هذه القوة هى القيامة؛ القيامة طاقة نور بها استعادت هذه الجماعة رؤيتها للمسيا فصارت قوة مغيرة. كيف يتم هذا إِذًا، وكيف تُفعَّل هذه القوة المغيرة؟ بالتلمذة. بالطبع هناك طرق عديدة للتعبير عن الرسالة، لكنى أعتقد أن التلمذة كانت الأسلوب الأكثر فاعليةً الذى تبناه السيد المسيح لانتشار رسالته؛ فهى تعبير رائع عن التعددية والتنوع ونقل الفكرة عبر خبرة بشرية متنوعة. فنجد فى حوار السيد المسيح مع نيقوديموس (وهو معلم يهودى عاش فى ايام السيد المسيح) مثالًا لمعلمٍ يبنى عقل تلميذه بإطلاقه لآفاق جديدة فى التفكير، بالحديث عن الولادة من فوق، أمر غير معهود ولم يطرح على عقله من قبل، التلمذة تصنع العقول بتحريرها من الجمود وإطلاقها إلى آفاق أوسع فى التفكير. كما كانت حياة التلاميذ فى البداية تتسم بالتمرد وطلب السلطة؛ فنجدهم فى البداية يختلفون حول من هو الأعظم فيهم، ومن يأخذ المنصب الأول ومن يجلس عن يمين المسيح ومن يجلس عن يساره... أفكار ممتلئة بطلب السلطة، إلا أن خبرة المعايشة مع المسيح طورت هذه الخبرة ووجهت هذه الطاقة إلى العطاء والدعوة. إن القيامة تمثل نقطة تحول جديدة، فهى انطلاق نحو المستقبل بقلوب متحررة من الجمود وعيون ممتلئة بالرجاء، فالقيامة حرية وأيضا تغيير وبناء. ومن هنا فإننى أتطلع إلى مستقبل جديد مملوء بالأمل ودافع إلى المزيد من التقدم. رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر لمزيد من مقالات د. القس أندريه زكى اسطفانوس